بعد الهبة الفلسطينية داخل أراضي 48، تواصل الشرطة الإسرائيلية حملة اعتقالات مئات من فلسطيني الداخل تحت ذريعة “القانون والنظام”، وبالتزامن يتساءل باحث يهودي عما إذا ستتحول إسرائيل المنقسمة إلى يوغسلافيا؟
في قراءة للواقع الراهن، يقول المؤرخ والباحث الإسرائيلي بروفيسور شلومو زند، إنه بعدما غزا نابليون كل أوروبا وقتل ملايين الجنود، قال: “يمكنك فعل أي شيء بالحراب باستثناء الجلوس عليها”. زند الذي يتوقع ألا تدوم إسرائيل بعد سلسلة كتب هامة، أوضح فيها كيف تم اختراع “شعب إسرائيل” و “أرض إسرائيل”.
وتابع في مقال نشرته صحيفة “هآرتس” وترجمه معهد دراسات الجرمق: “كنتُ قد فكّرت، بسذاجة، عندم قرّر رئيس الوزراء أريئيل شارون، في الآونة الأخيرة، الانسحاب من قطاع غزة، أن إسرائيل بدأت تتعلم الدرس الأساسي الشهير عند الكورسيكيين: يمكنك الاحتلال والقمع، ولكن كل عمل تقوم به قوة أجنبية له أيضاً حدوده. وإذا لم تقم، في نهاية المطاف، وفي العصر الحديث، بتدمير أو طرد الأشخاص الذين ليس لديهم سيادة أو لديهم سيادة احتيالية لا معنى لها، فسوف يتمردون مرة تلو الأخرى”.
وبرأي زند، اندلعت شرارة الحريق الأخير في غزة بواسطة عودي ثقاب: الأول يشبه ذلك الذي أشعل انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2000. هجوم همجي على المسجد الأقصى، الذي لا يُعتبر فقط موقعاً دينياً رئيسياً فحسب، بل رمزاً قومياً واضحاً أيضاً. وكان عود الثقاب الثاني، المطالبة بطرد السكان العرب من منازلهم في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية، بناءً على الادعاء القانوني بأن اليهود كانوا يمتلكون الأرض قبل عام 1948، وبدا هذا الطرد أشبه بغرز إبرة في جرح متقيح، ومظهرا صادما للظلم الفادح. إذ أنك تطالب اللاجئين بمغادرة منازلهم، رغم حقيقة أنك استوليت على منازلهم السابقة إثر نكبة 1948، إلى جانب مئات الآلاف غيرهم، دون حتى التفكير في تعويض أصحابها”.
زند الذي يغرّد بعيدا خارج السرب الإسرائيلي يعتبر أن هذا هو الطيش الوقح الذي يمارسه المحتل الأحمق، والذي قد يؤدي إلى إحراق جميع المنازل التي بنيت هنا خلال المئة عام الماضية معتقدا أنه في الواقع، أن النار قد بدأت تنتشر بالفعل. ويستعيد ما حصل بقول ساخر: “انتفض في البداية سكان القدس الشرقية، وهو أمر لم يكن مفاجئا. يعيش داخل العاصمة اليهودية الأبدية حوالي 380 ألف فلسطيني، ويشكلون حوالي ثلث سكانها، دون حقوق سياسية أو مدنية لمدة 54 عاما حتى الآن. وفعلت إسرائيل بأولئك السكان التي ضمتهم كل شيء حتى لا تمنحهم الجنسية الإسرائيلية. وقامت علانية، وبشكل واضح بتطبيق المواد اللاصقة المستمدة من الأساطير لتوحيد الأحجار والجدران العالية، دون البشر الأحياء. لأنهم، أولاً وآخراً، ليسوا يهوداً”.
لكن المفاجأة الحقيقية حسب زند جاءت هذه المرة من جهة “الفلسطينيين الإسرائيليين” الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويتمتعون بالمساواة السياسية الرسمية الكاملة في إسرائيل الذين كانوا “حطابين وسقايين”، ثم بدأوا مؤخراً بأعداد كبيرة في شغل وظائف في المستشفيات والصيدليات والجامعات. ويتساءل زند ما الذي يحدث الآن، وفي جميع الأوقات، حيث إننا بدلاً عن رؤية العلامات الأولى للاندماج والتقدم الاجتماعي والاقتصادي بوضوح، نرى أن تمرداً واسعاً قد ولد، وها هو بدأ يشبه الحرب الأهلية؟
مقاربات في المكان والزمان
وضمن مقارباته مع حالات مشابهة في العالم والتاريخ، يقول المؤرخ الإسرائيلي شلومو زند، إن الفيلسوف الليبرالي أليكس دي توكفيل قبل 180 سنة سعى لفهم الثورة الفرنسية برؤية جديدة مفادها أن التقدم نحو المساواة، قبل الثورة، هو الذي مهد الطريق لذلك الانفجار العظيم، وخاصة للمطالبة بالمساواة السياسية الكاملة من خلال ثورة. ويقتبس ما قاله هذا الفيلسوف الفرنسي في كتابه “الديمقراطية في أمريكا” بأنه عندما يكون عدم المساواة في الظروف هو القانون العام للمجتمع فإن أكثر أشكال عدم المساواة الملحوظة لا تذهل العين، أما عندما يكون كل شيء على نفس المستوى تقريباً، فإن أقل ما يميز المجتمع يجعله كافياً لإلحاق الأذى به. ومن ثم تصبح الرغبة في المساواة دائماً أكثر طلباً للوصول إلى التناسب المؤدي إلى اكتمال المساواة”.
أحاسيس واستنتاجات جديدة
يرى زند أن هذا الإدراك صالح لإسرائيل في هذا الوقت، معللا ذلك بالقول إن “تزايد إضفاء الطابع الإسرائيلي على المواطنين العرب، ومعرفتهم باللغة العبرية، وتحسن الوضع الاجتماعي لبعضهم، وحتى اندماجهم المتردد في عالم الإعلام، إلى جانب استمرار احتلال الضفة الغربية، كل هذا أنتج أحاسيس جديدة واستنتاجات جديدة”.
في المقابل يؤكد زند متوجها لفلسطينيي الداخل الذين يشكلّون نحو 19% من سكان إسرائيل اليوم: “لا يمكن أن تكونوا متساوين، لن تكونوا متساوين أبداً، في دولة تعلن بوضوح أنها ليست دولتكم. إسرائيل، على عكس الديمقراطيات الليبرالية الأخرى، ليست دولة جميع مواطنيها، ولكنها دولة كل يهود العالم (الذين لا يريدون حتى العيش هناك)”. منوها أن معنى “الديمقراطية اليهودية ” يشبه معنى المصطلحات الأخرى ذات التناقض الداخلي، مثل “الديمقراطية البيضاء” في الولايات المتحدة أو “جمهورية الغال الكاثوليكية” في فرنسا.
ويتابع زند في مقارناته: “في أي دولة قومية في العالم، يتم اختيار نشيد وطني يهدف إلى توحيد وإلهام جميع المواطنين، بغض النظر عن دينهم أو لون بشرتهم أو أصولهم. في إسرائيل، يؤدي النشيد الوطني الإسرائيلي علناً وبقسوة إلى نفور بعض مواطنيها، لأنه، بعد كل شيء، ليس لكل شخص. الروح اليهودية التواقّة “. ويذكّر أن إسرائيل مستعدة لاستقبال أي شخص يمكنه إثبات يهودية والدته، أو من تحوّل وفقاً للقانون الديني اليهودي، بينما لا يستطيع الإسرائيليون الفلسطينيون أن يتّحدوا ويلموا شملهم مع أقاربهم من الدرجة الأولى والثانية الذين اقتلعوا من هنا عام 1948 ويعيشون في مخيمات للاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
بلدات جديدة.. لليهود فقط
يضيف بهذا المضمار: “منذ إنشاء حدود إسرائيل في عام 1967، تم إنشاء حوالي 700 بلدة يهودية جديدة، ولكن لم يتم إنشاء أي بلدة عربية واحدة (باستثناء مدينة رهط التي تم فيها إسكان بدو طردوا من أراضيهم). وضمن التدليل على أوجه النصرية الإسرائيلية يقول زند إنه رغم أن حوالي 19% من مواطني إسرائيل هم من العرب، إلا أنه لا توجد جامعة واحدة ناطقة باللغة العربية بينما هناك جامعة ناطقة باللغة العبرية للمستوطنين داخل الضفة الغربية الفلسطينية. ويقول إنه رغم أن إسرائيل تقدم نفسها للعالم كدولة علمانية وليبرالية، إلا أن المرأة اليهودية لا تستطيع الزواج من رجل غير يهودي هنا، لأنه لا يوجد زواج مدني وكي تتزوج شريكها المختار، يجب أن تسافر إلى بلد آخر لا يحاول عن قصد منع زواج اليهود وغير اليهود. ويتابع زند في تبيان أوجه التمييز في إسرائيل.
يمكننا أن نشير إلى العديد من العناصر غير المتكافئة والإقصائية المتأصلة في البنية التحتية للدولة اليهودية (ما يسمى بقانون الدولة القومية ليس ابتكاراً في هذا الصدد، ولكنه كشف فقط هذه العناصر وسلط الضوء عليها)، ولكن يجب الإدراك بأن الخطاب النقدي من هذا النوع كان عديم الفائدة تقريباً حتى الآن. ويدلل على مقولته هذه بالقول إن معظم اليهود الإسرائيليين غير مبالين بعدم المساواة الأساسية هنا ويفضلون الاستمرار في التناثر والتنافر في مجموعتهم “اليهودية والديمقراطية”، والتي كانوا يعتقدون حتى هذه النقطة أنها ستبقى إلى الأبد.
ويضيف: “الآن فجأة اندلع الآلاف من الفلسطينيين الإسرائيليين في احتجاجات عنيفة واحتجاجية ضد عدم المساواة التي لا تطاق. لم يشارك أفراد من الطبقة الوسطى العربية في الاحتجاجات القاسية، لكن للمرة الأولى سمحوا لأطفالهم بمواجهة هراوات ضباط الشرطة، وكذلك ضد قبضات العنصريين والمستوطنين اليهود الذين تم إحضارهم من وراء تلال الظلام التي يضرب بها المثل، أي من مناطق أرض إسرائيل المحررة. موضحا أن العنف دائماً مكروه وقبيح، لكنه لسوء الحظ، صاحَب النضالات من أجل المساواة عبر التاريخ. ويشير زند إلى أن الاستخدام الشديد الحالي للقوة داخل إسرائيل يُذكّر بالعنف الكبير الذي شهدته حركة “الفهود السود” في أمريكا في الستينيات من القرن الماضي، خاصة بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ. ويتابع: “قدّم نضال المشاغبين في الأحياء السوداء الفقيرة مساهمة حاسمة أخرى في تحويل الولايات المتحدة من بلد يغلب عليه البيض إلى ديمقراطية قائمة على المساواة لجميع مواطنيها. كما نعلم، فإن النضال من أجل هذا الهدف لم ينته بعد”.
السؤال الكبير
يخلص زند للتأكيد أن السؤال الذي يبقى بعد الاشتباكات العنيفة الأخيرة في إسرائيل هو: هل ستنحدر إسرائيل المنقسمة إلى وضع متدهور وتتحول إلى نوع يشبه يوغوسلافيا، التي تدهورت إلى حرب دموية بين مواطنيها المتنوعين وغير المتكافئين، وتمزقوا إلى أشلاء؟ أم سنكون قادرين على تحويلها، على الرغم من كل الصعوبات، إلى دولة مثل كندا أو بلجيكا أو سويسرا، والتي ورغم كل الانقسامات، تمكنت من الحفاظ على نفسها كديمقراطيات متعددة اللغات، حيث مبدأ الهوية المدنية غير العرقي و غير الديني؟ أو أن الطبيعة الإثنية البيولوجية هي الضوء الذي يوجهها؟
عن هذا التساؤل فضّل التريث بالقول: “سيخبرنا الوقت بذلك”.