ثمّة خبران، يُشير الأول إلى أنّ وزير الخارجية الصينيصرّح بأنّه "لا يُمكن وقف دوّامة العنف إلا بإيجاد حلجذري للقضية الفلسطينية"، بينما يُخبرنا الثاني بأنّالاتحاد الأوروبي أكد على أنه "سيبحث كيفية المساهمةفي إنهاء دوّامة العنف الحالية". يمنحنا هذان الموقفانرؤية حقيقية حول مقاربات دول العالم للقضيةالفلسطينية، كونها تشبه إلى حدٍ كبير مواقف الأطرافالفلسطينية، والعربية أيضًا، فبعضهم يرى المشكلة فيالصهاينة ووجودهم، وآخرون يرون أن المشكلة تتمثل فيحماس والمقاومة، وبين هذا وذاك، هناك مواقف ومقارباتمختلفة ومختلطة.
لكن في حقيقة الأمر، وكلما اقترب الشعب الفلسطينيمن إعادة تشكيل وعي العالم بأنّ المشكلة الحقيقة تكمنفي الوجود الصهيوني والأيديولوجيا الصهيونية علىأرض فلسطين – كل فلسطين؛ من رأس الناقورة وحتى أمالرشراش – نجد الولايات المتحدة؛ حُكامًا ولوبيات،تتصدى لأي محاولة لإدانة الكيان الصهيوني أو تقريبنهاية أجله. بل حتى أنها تسعى جاهدةً ومستنفرة كلأدواتها؛ إعلامًا ودبلوماسيين، لجعل ذلك يبدو بعيد المنال،إذا لم نقل مستحيلًا. يُضاف إلى أدواتها المباشرة،استخدام أدواتها في منطقتنا؛ من عملاء ورؤساء وأجهزةمخابرات ودعاية سوداء على رأسها التطبيع المذل لبعضالعرب، وهو خنجر مسموم يؤسس للهزيمة العربية حاضرًاودينًا وروايةً، حيث يؤدي إلى إحباط النفوس، وهزيمةالوعي الجمعي الناهض.
إنّ الوجود الصهيوني، وكما تبيّن خلال الثلاثة والسبعينعامًا الماضية، يُمثّل جريمة مكتملة الأركان، فلا تمر بضعسنين إلا ويُهاجِم شعب فلسطين الأعزل استيطانًا أوعدوانًا، وإذا لم يهاجم الفلسطيني (و"إذا" هذه من بابأن الفعل قد يصبح في الخارج أكبر)، فإنه يقوم بمهاجمةبلدًا أو هدفًا لشعب عربي أو مسلم شقيق مجاور، كمايفعل مع سوريا وإيران وقبلهما العراق. وكلما خاضالفلسطيني نضالًا واقترب شعوره من النصر والحصولعلى حقوقه غير القابلة للتصرف بالعودة وتقرير المصير،ويُصبح قاب قوسين أو أدنى بفضل مقاومته وصمودهوالتفاف شعوب العالم حوله، تسرق الولايات المتحدةوحليفاتها الغربية نصره وتحوّله إلى هزيمة وآلام لمدةطويلة، محاولةً كي وعيه بأنه ضعيف أمام الصهيونية،وعليه التسليم بالهزيمة.
ونرى هذا في عام 2021 مع الأحداث الحالية، فبعدصمود المقاومة في غزة، وانتفاضة الداخل المحتلوانتفاضة القدس المتزامنتين مع هبة الضفة الغربية التيتأخرت قليلًا، ظهرت أصل المسألة وجذورها المتمثلةبإنشاء الكيان الصهيوني عام 1948، وما رفقه من تهجيرولحقه من استيطان وإحلال، يتم التركيز على قضاياصغيرة هامشية حلها أو تسكينها يُبقي الملف الفلسطينيمفتوحًا بكل صفحاته ومُرشحًا للتصعيد مرةً أخرى. إنالمسكنات الآنية لن تغلق الملف الفلسطيني، بل ستزيد منحالة الصراع أمدًا آخر، فربما تستطيع بعض المبادراتوالإلهاءات الدولية تجميده أعوامًا أخرى، لكنها لن تطول،إذ سيعود له الوعي مرّة أخرى وينفجر.
وعليه، في هذه المرحلة من النهوض الفلسطيني العام،على العرب ومن يُمثّل الشعب الفلسطيني مهما كانتصفته أو مدى شرعيته، الخروج من حالة المراوحة فيالحاضر، والذهاب إلى الأصول في البحث عن حلٍجذري للقضية الفلسطينية يستندُ إلى قاعدة دولةفلسطينية على كامل فلسطين الانتدابية؛ دولة عدلومساواة دون تفرقة دينية أو عنصرية أو قومية، محاكاةًلنموذج جنوب أفريقيا. هذا هو الحل الوحيد، أما إعادةإنتاج نفس العناوين السابقة مثل حل الدولتين، أو إبقاءالوضع الراهن، فهو مهزلة واستخفاف وهدر للدماءوتدمير للإنجازات التي تحققت بفعل العمل المقاوم. وماسلوك هذا الطريق المُجرب مرةً تلو الأخرى إلا التفافعلى الإرادة الشعبية ومحاولة لوأدها، كما حصل بعدانتفاضة العام 2000.
وما القانون الدولي، وما يسمى شرعية دولية، إلا ملهاةلتضييع القضية، لذلك يجب عدم الذهاب إلى القرارالمسخ رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي عام1967، والذي تحوّل مع اتفاق أوسلو إلى قيدٍ يُدمرالانتماء الفلسطيني الشامل، مراعاةً لما تريده أوروبا ومايسمى المجتمع الدولي الذي جرت صهينته كي يقبل بطردشعب وإحلال آخر غريب مكانه، بالحديث الجزئي عنصراع حدود وسيادة ودولة مسخ لم تتحقق ولن تتحقققريبًا أيضًا بعد خمسة وعشرين عامًا من المفاوضاتالعبثية، التي شملت تنازلات مؤلمة وصلت حد التنازل عنثمانية وسبعين في المئة من أرض فلسطين الانتدابية ،وقبول فلسطيني (قيادي) بحق إسرائيل في الوجود علىأرض فلسطين، مقابل اعتراف بسلطة إدارة مدنية هزيلةمرتبطة بالاحتلال وتُنسّق معه، وترك الكلي الذي هو جذرالصراع المُتمثل بالصهيونية ومقاومتها بوصفهاأيديولوجيا عنصرية استعمارية إحلالية تعيثُ فسادًا فيالأرض.
لذلك، وحتى لا يُلدغ الفلسطيني من الجحر ذاته مرةًأخرى، من المفترض في حال حدثت مفاوضات مستقبلًا،أن يكون المفاوض شابًا مقاتلًا وطنيًا، يتجاوز صيغأوسلو وقرار 242 الذي يخص دول طوق فلسطين (سورياومصر والأردن تحديدًا)، ولا يخص الفلسطيني إلا فيمايتعلق بعودة اللاجئين إلى ديارهم. المقاتلون، بصرفالنظرِ عن أداتهم؛ سلاحًا أو حجرًا أو كتابة وطنية، هموحدهم من يحق لهم التفاوض كونهم يملكون روحًا جامحةغير مدجنة ومهزومة ولا يائسة، بل مشحونة بالأملوالعزيمة.
الفلسطينيون اليوم، وفق كل القراءات والمعطيات، يَعتبرونالفدائي الممثل الشرعي المعبر عن جوهرهم الأصيل، وهذاما أثبتته الأيام الماضية في أن الشعب الفلسطيني يقفخلف من يتحدى ويتصدى للعدو. لذلك وإجابةً على سؤالما العمل، يجب إعادة بوصلة التحرير والعمل الفدائيكجوهر وهدف لمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعيوالوحيد للشعب الفلسطيني، وإلا سيتجاوزها الواقعالذي يتبلور يومًا تلو الآخر فلسطينيًا.
قد تنتهي المعركة بطابعها المسلح في قطاع غزة خلالساعات أو أيام، لكن ذلك سيكون البداية؛ بداية جنيالثمار بعد هذا الصمود الأسطوري والقتال المشرف،وبعد إعادة الروح الوطنية والأمل بالتحرير والعودة إلىكل القرى والمدن التي هُجّر منها أبناء فلسطين عام1948.
لقد تعلّم الفلسطينيون درسًا بأن المفاوضات ليست خيارًا،ما لم تُدعّم بالمقاومة المستمرة وبكافة أشكال النضال،وتعلموا أنه ما لم يكن هناك برنامجًا وطنيًا وهدفًا شاملًايُعيد القضية إلى جوهرها كصراع وجود لا حدود، فإنالصراع سيكون في غير محله. لذلك يجب التخلّي عنالوهم المتمثّل في أسطرة "إسرائيل" كقوة لا تُهزم،والتركيز على صناعة الأمل والنصر والتحرير والعودة،وكل ذلك لا يتأتى إلا بعبارة "ع القدس رايحين.. شهداءبالملايين"، فالعدو الصهيوني لا يفهم إلا لغة القوة، والقوةوحدها وبكافة درجاتها من ناعمة إلى خشنة وحتى القاتلةكرد على الإجرام الصهيوني، هي الخيار الوحيد القادرعلى إحداث التغيير والتقريب من النصر، الذي لن يتحققإلا بهزيمة الأيديولوجيا الصهيونية.