عندما تكون الدراما مقاومة.. د. وليد القططي

الثلاثاء 04 مايو 2021 12:47 م / بتوقيت القدس +2GMT
عندما تكون الدراما مقاومة.. د. وليد القططي



جمهورية زفتى، اسم مسلسل درامي مصري عُرض عام 1998م، يروي قصة حقيقية لأحد مراكز محافظة الغربية، حدثت أثناء ثورة 1919م، أعلنت البلدة فيها استقلالها باسم (جمهورية زفتى)؛ مما استدعى سلطة الاحتلال الانجليزي أن تُرسل قوة عسكرية كبيرة لقمع الثورة، قصة زفتى كان من الممكن أنْ تندثر في زحمة الأحداث، لولا أنْ خلدتها الدراما فأرّخت لقصة المعاناة والمقاومة في البلدة كنموذج مُصغّر لقصة مصر كلها، التي يُعاني شعبها من ثُلاثي الظلم: الاحتلال الإنجليزي، والملكية الحاكمة، والنظام الإقطاعي، فعانى الشعب من البطش العسكري، والاستبداد السياسي، والاستغلال الاقتصادي. والجانب الآخر من الصورة التي رسمتها الدراما هو المقاومة التي قادها محامي شاب من المثقفين الثوريين، وحّدَ أهل البلدة تحت لواء الثورة بكافة فئاتهم وشخصياتهم، فانضم إليه إمام مسجد البلدة، وضابط قسم الشرطة، ومطرب القرية، وحتى رئيس عصابة المطاريد... وأعلنوا جميعاً قيام (جمهورية زفتى) لمدة قصيرة من الزمن انتهت بإرسال جيش الاحتلال قوة عسكرية قضت على الثورة. والمسلسل قدّم نماذج إنسانية متناقضة جمعت بين الثوار المخلصين والانتهازيين، وبين الوطنيين الصادقين والمذبذبين، وبين الشهداء الأخيار والخونة الأشرار.

دراما المقاومة في مسلسل (جمهورية زفتى) أكد على صورة المعاناة والمظلومية من جهة، وعلى صورة المقاومة والبطولة من جهة آخرى، وهي نفس القيم التي أكد عليها مسلسل (التغريبة الفلسطينية) السوري الذي صُنّف كأفضل عمل درامي عالج القضية الفلسطينية تاريخياً واجتماعياً، فصوّر الظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، كما صوّر البطولة التي واجه بها الشعب الفلسطيني الاحتلال الإنجليزي والمشروع الصهيوني، والمسلسل يُقدّم الرواية الفلسطينية للصراع بطريقة واقعية تُظهر معاناة النكبة والتشرّد واللجوء، ولم يغفل عن تسجيل بعض عناصر الضعف في المجتمع الفلسطيني قبل النكبة، كالتفاوت الطبقي، والتنازع العائلي، وقتل النساء بالشُبهه. وقدّم نماذج إنسانية واقعية منها: الفلاح البسيط، والعامل الكادح، والمثقف الثائر، والتاجر الانتهازي، والإقطاعي المستغِل، والعميل الخائن... وتأكيداً لقيمة المقاومة والبطولة انتهى المسلسل بطريقة رمزية مفتوحة تدل على استمرار الشعب الفلسطيني في المقاومة جيلاً بعد جيل، ويظهر ذلك في المشهد الأخير للمسلسل عندما يُخرج (رشدي) بندقية والده الشهيد من مخبئها ليواصل طريق المقاومة.

وعندما تكون الدراما مقاومة تُقدم الدراما الفلسطينية من غزة المُحاصرة والصامدة والمقاوِمة صوراً جميلة من مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، كان آخرها في عملين دراميين: أحدهما يصوّر معاناة مدينة القدس وأهلها من الاحتلال والاستيطان والتهويد والتهجير والتضييق والضرائب والمخدرات... وهو مسلسل (بوابة السماء) بجزأيه الأول والثاني، الذي يجمع بين المعاناة والصمود والمقاومة، من خلال إظهار مدى تمسك المقدسيين بأرضهم وبيوتهم، وقوة دفاعهم عن المسجد الأقصى، ويُقدم العديد من نماذج المظلومية والبطولة في حالات الشهداء والأسرى والجرحى والمرأة الصامدة المرابطة والرجل الفدائي المقاوم، والعمل الدرامي الآخر مسلسل (ميلاد الفجر) المُستوحى من أحداث حقيقية وقعت في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وأرّخت للمرحلة الأولى من ميلاد حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين كأحد أهم حركات المقاومة الفلسطينية، برؤيتها النوعية التي تجمع بين الإسلام وفلسطين والمقاومة وهي المرحلة التي سبقت وهيأت للانتفاضة الأولى ورافقتها حتى العمليات الاستشهادية الكبيرة منتصف التسعينيات، والمسلسل يؤكد على فكرة المقاومة بطريقة درامية تُظهر جرائم الاحتلال وبطولات المقاومة، كما تُظهر تماسك الشعب الفلسطيني وتوّحده خلف المقاومة، وتُبيّن قيم المجتمع الفلسطيني المسانِدة للمقاومة، وروح التعاون والتكافل التي تسكن الأسر الفلسطينية خاصة في أوقات الأزمات.

هذه نماذج من دراما المقاومة تستطيع هي وغيرها تحدّي تيار دراما التطبيع. الموّجه من بعض الأنظمة الحاكمة، فتُبطِل الرواية الإسرائيلية الصهيونية للصراع بالرواية الفلسطينية العربية، وتواجه شرعنة العلاقات مع الصهاينة بتجريم العلاقات معهم، وتؤكد على تعريف (إسرائيل) كعدو للأمة مقابل إعادة تعريف العدو بعيداً عن (إسرائيل) من دراما التطبيع. والتي تستطيع مواجهة تيار التفاهة في الدراما، فتواجه السطحية بالعمق، والإسفاف بالسمو، والجهل بالوعي، والتبعية بالأصالة، والخضوع بالممانعة، والانحلال بالالتزام، والإفساد بالأخلاق، والاستبداد بالثورة، والاحتلال بالمقاومة... وعندما تكون الدراما مقاومة تستطيع مواجهة تيار التحريم الصحراوي الجامد الذي جعل من الدراما موضوعاً لتفريغ عُقده الفكرية، وحاجته للاشتباك الدائم مع غيره، ورغبته في الهجوم المستمر على الآخر الذي لا يشبهه، فاعتبرها رجس من عمل الأشرار، ودنس لا يقوم به إلا أهل النار، فتركها لهم بفنهم الرديء المُفسِد للناس دون أن يستفيد من الدراما كأحد أهم أبواب الدعوة والثورة.

وعندما تكون الدراما مقاومة يكون الفن راقياً تلتقي فيه قيم الجمال والحق، فيكون الشكلُ جميلاً والمضمونُ حقاً، فيتجسّد الجمال والحق في قصيدة شاعر، أو نثر أديب، أو ريشة رسام، أو لحن موسيقار، أو صوت مُغني، أو دراما ممثل... وحين يكون الفنُ مقاوماً يمتلك صوابية الفكر، وصدق الأدب، وسمو الفن، وخاصة إذا كان الحديث عن فن الدراما، وخاصة دراما المقاومة؛ التي تجعل من الدراما سلاحاً يقاوم الظلم بكافة أشكاله لا سيما الاحتلال والاستبداد، وليست مجرد تصوير المقاومة بالتمثيل فتزرع في العقل وعياً، وتغرس في القلب إيماناً، وتفجر في النفس ثورة، وتجعل الشعب أكثر ثقة بنفسه وقدراته، وأكثر إدراكاً لواقعه وحاضره، وأشد تمسكاً بقضيته وحقوقه، وأقوى إصراراً لامتلاك إرادته ومستقبله.

وأخيراً عندما تكون الدراما مقاومة تنتشر ثقافة المقاومة، ثقافة النصر المُضادة لثقافة الهزيمة الناتجة عن دراما التطبيع، والفرق بينهما كالفرق بين الحياة والموت، الحياة الكامنة في إرادة النصر وحياة العزة والكرامة، والموت الكامن في فقدان إرادة النصر والرضى بحياة الذلة والمهانة. والنصر والهزيمة كثقافة يفصلهما الاستسلام أو عدم الاستسلام لإرادة العدو، مهما كانت نتيجة المعركة العسكرية نصراً أو هزيمة، فالنصر يُلازم الشعب والمقاومة طالما لم يلقوا السلاح وواصلوا طريق الكفاح، والهزيمة لا تأتي بعد الهزيمة العسكرية للجيش أو المقاومة فقط، ولكنها تأتي بعد الهزيمة النفسية وفقدان إرادة النصر، أو بعد إنكار الهزيمة مُكابرةً للنفس ومُعاندة للواقع، الذي يُكرّس ديمومة الهزيمة وهنا تكون الهزيمة مُضاعفة، ولكي لا نصل إلى تلك المرحلة من الهزيمة نحن بحاجة إلى ثقافة المقاومة وفن المقاومة ودراما المقاومة.