رأت صحيفة “نيويورك تايمز” في قرار الرئيس جوزيف بايدن سحب القوات الأمريكية من أفغانستان قبل 11 أيلول/سبتمبر المقبل، بأنه محاولة للتركيز على التحديات الجديدة وأن عام 2021 يحتاج لسياسات غير التي أعقبت هجمات 9/11 /2001.
وفي تقرير أعده ديفيد سانغر جاء أن قرار بايدن سحب كل القوات الأمريكية من أفغانستان متجذر في اعتقاده ألا مجال لمواصلة سياسات العشرين سنة الماضية الفاشلة في إعادة تشكيل وبناء البلد، وبخاصة في وقت باتت فيه الولايات المتحدة تركز على سياسات تحويلية للاقتصاد والأجندة الاجتماعية في الداخل وتهديدات أهم في الخارج. ومع أن بايدن لن يستخدم أبدا مصطلح الخروج من أفغانستان كجزء من رؤية “أمريكا أولا” كما فعل سلفه دونالد ترامب الذي استخدم المصطلح، إلا أن سنوات بايدن في لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس وكنائب للرئيس أقنعته بأن الجهود التي تقودها الولايات المتحدة في أفغانستان مصيرها الانهيار.
فقد خسر بايدن مرة وبعد الأخرى في عهد باراك أوباما النقاش الداعي لتخفيض عدد القوات الأمريكية للحد الأدنى وحصره في عمليات مكافحة الإرهاب. ولكن وبعد أقل من ثلاثة أشهر في البيت الأبيض توصل بايدن إلى حقيقة وهي أن سحبا كاملا للقوات بدون ارتباط بتغير الظرف السياسي سيحرف انتباه أمريكا بعيدا عن النزاع المستمر منذ عقدين والتركيز على أنواع جديدة من النزاعات المتوقعة في العقدين المقبلين. وحدد أهداف رئاسته بالتصدي لفيروس كورونا الذي يتشكل في عدد من السلالات وانتهز الفرصة لتقوية درجة المنافسة مع الصين والتأكيد للعالم أن الديمقراطية الأمريكية لا تزال قادرة على مواجهة التحديات الكبرى.
وفي داخل هذه الرؤية أولويات مكافحة الفقر وعدم المساواة وزيادة الاستثمار في شبكات الإنترنت والذكاء الاصطناعي وفايف جي وليس استخدام الجيش لدعم حكومة أشرف غاني. وهذا يعني التفكير في البنى التحتية وليس قوى الحماية والدفاع عن شبكات الإمداد وليس الإمداد العسكري. وترى الصحيفة أن نهج بايدن يحمل الكثير من المخاطر. فالتقدير السنوي حول التهديدات العالمية والذي نشره مدراء الوحدات الاستخباراتية صباح الثلاثاء حذر “من قدرة الحكومة الأفغانية على وقف تقدم طالبان” لو انسحبت قوات التحالف. وقال مسؤولو الإدارة إن هذا زاد من منظور حدوث شيء مشابه لسقوط سايغون في 1975 وبعد تخلي الولايات المتحدة عن حرب لم تخطط لها جيدا. لكن بايدن يرى بوضوح أن التنافس مع الصين الصاعدة يتقدم على الفكرة التي تقول إن البقاء عدة سنوات أخرى وإنفاق مليارات إضافية مع آلاف من الجنود ستحقق الولايات المتحدة ما لم تحققه عبر عقدين من الزمان وبنفقات تريليوني دولار على بناء الدول.
وبعد أول مؤتمر صحافي له في الشهر الماضي قال بايدن “علينا إثبات نجاعة الديمقراطية” ووصف ملامح سياسته الخارجية التي تقوم على إعادة سمعة أمريكا التي تقوم بفعل ما تقول. ولاحظ بايدن أن “الصين تستثمر أكثر منا بمسافة بعيدة” لأن “خطتهم هي السيطرة على المستقبل”.
وبالتأكيد فلم يحتفل أحد بتورط أمريكا في العراق وأفغانستان أكثر من الصين، حيث ظلت أمريكا قلقة حول أعداد الضحايا والسيطرة على مناطق بعيدة. أما الصين فقد ركزت على نشر التأثير في المناطق التي كانت فيها أمريكا قوة لا يجاريها أحد. وقبل سنوات تحدث ضابط صيني متقاعد في مدرسة للحزب الشيوعي الصيني المركزية لزملائه مندهشا من تضييع أمريكا أرصدتها. وفي يوم الثلاثاء قال أحد مستشاري بايدن البارزين إن الرئيس توصل إلى نفس النتيجة، فمن أجل مواجهة تحديات عام 2021 بدلا من 2020 يجب علينا كما قال “طي الصفحة عن نزاع العشرين عاما في أفغانستان”. إلا أن الخيار هذا يحمل مخاطر كثيرة ولهذا اقتضى الأمر أكثر من شهرين ونقاشات متواصلة مع البنتاغون. واعترف مستشارو الرئيس أنه سيتحمل المسؤولية لو سقطت أفغانستان في يد طالبان أو تحولت مرة ثانية لملاذ إرهابي تعمل فيه جماعات تقصد ضرب أمريكا.
ولم يضيع نقاد بايدن الوقت لوصف قراره بأنه انسحاب وتجاهل لقرار ترامب قبل أشهر عندما أعلن مخطئا أن القوات الأمريكية ستعود إلى الوطن قريبا. وحاول السناتور ليندزي غراهام، الجمهوري عن ولاية ساوث كاليفورنيا، إقناع ترامب بتغيير موقفه ووصف قراره بأنه خطير.
وفي الوقت الذي دعم فيه الديمقراطيون قرار الرئيس إلا أن بعضهم عبر عن قلقه من قدرة الولايات المتحدة على التعامل مع أي تهديد طارئ في أفغانستان. وقال السناتور جاك ريد عن رود أيلاند “لا توجد إجابة سهلة. ولكن كما قالت ليزا كرتيس، المديرة البارزة لجنوب ووسط آسيا في مجلس الأمن القومي أثناء إدارة ترامب، فالسؤال الأصعب يتعلق بتجميع هذه القوات من جديد وإرسالها إلى الأراضي المعادية و”محاولة إرسالهم مرة أخرى إلى أفغانستان لمواجهة الجماعات الإرهابية سيكون صعبا، بعد سيطرة طالبان على أجزاء كبيرة من البلد”. و”يجب ألا يكون الوضع عن إما أو”، بل و”يجب علينا الحفاظ على مستوى معين من القوات حتى نستطيع التعامل مع أكثر من تهديد في نفس الوقت”. ولم يكن هذا موقف رئيسها ترامب الذي أراد الخروج من أفغانستان لكنه لم يضع خطة.
وعندما ينظر المؤرخون إلى قرار بايدن فسيرون أنه “مقدر”. فالمكان لم يطلق عليه “مقبرة الإمبراطوريات” عبثا، فقد انسحب البريطانيون عام 1842 بعد العملية التي أطلقت عليها كتب التاريخ “كارثة أفغانستان”. وفي 1989 انسحب السوفييت بعد عقد من القتل والإحباط. وما تعلمه السوفييت في عقد تعلمه أربعة رؤساء أمريكيين في عقدين. وكان بايدن أول من آمن بالدرس، ويتذكر أوباما في مذكراته كيف عارض بايدن في أول مراجعات السياسة عام 2009 وحذر من الانجرار المستمر والعميق للبلد في تمرين مكلف وعبثي لبناء الدول. وذهب بايدن أبعد من هذا عندما رفض موقف البنتاغون الداعي لانسحاب مشروط. وباختصار أعلن بايدن أن الحرب قد انتهت رغم عدم تحقيق أهدافها ولا تزال أفغانستان في وضع خطر. وإن لم يحدث أي هجوم إرهابي من الأراضي الأفغانية فربما كانت مراهنة بايدن صحيحة.
وفي النهاية فما ربح النقاش هو أن مستقبل كينوشا (ويسكنسن) أهم من الدفاع عن كابول. ولو استطاع بايدن تركيز انتباه البلد على التحديات الإستراتيجية الكبرى- في الفضاء وعالم الإنترنت وضد القوى المتراجعة مثل روسيا والصاعدة مثل الصين فسيكون نجح في نقل البلد من هوسه بـ 9/11 حيث تفوقت مكافحة الإرهاب على أي التزام محلي. وسيكون هذا تغيرا في الطريقة التي يفكر فيها الأمريكيون حول هدف تأثير وقوة البلد وطبيعة الأمن القومي.