تنفس الأردنيون الصعداء عندما أفضى تدخل الأمير الحسن إلى رأب الصدع داخل الأسرة الهاشمية، على أعتاب الذكرى المئوية لتأسيس المملكة الهاشمية، وهنا نتكلم عن دولة نشأت على خطوط التماس مع كل الصراعات والحروب والنزاعات في الإقليم. ثمة من قال: إن العمارة شيّدت على فالق زلزال، وإنها تحتاج إلى فريق هندسي متكامل، لصيانتها.
لكن صمود المملكة الهاشمية منذ قرن، يحسب لها في ظل محدودية الموارد وإشكاليات النشأة، وأكثر من ذلك، أصبح ينظر إلى الأردن باعتباره ركناً للاستقرار والهدوء وسط دائرة من البراكين من العراق إلى سورية.
لقد صمد الأردن في وجه أعاصير تفوق قدرة أي دولة عادية على الصمود، وتجاوز أحلك الخصومات والظروف.
كان على ملك الأردن الحسين بن طلال أن يخترع لبلاده دوراً يفوق حجمها السكاني، ويفوق بأضعاف حجمها الاقتصادي. وكان يُعتقد أن سر هذه القدرة هو الملك حسين، اللين القوي، فقد تمكنت المملكة عبر عقود طويلة من الإبقاء على بنيتها وشرعية الحكم فيها في مناخات عاصفة مرت بها المنطقة.
وعلى مدى عقود، حافظ الأردن على توازنه الاجتماعي والاقتصادي. الأردن بلد بلا نفط، وبمدخل بحري محدود، ونهر شحيح المياه، ولكن ثروته في تعليمه وتدريبه، وبالسياحة الاستشفائية، وحتى مع ضعف الموارد المالية، صنف البنك الدولي الأردن من بين الدول الفضلى في البنية التحتية.
ويعرف الأردنيون أن الأسرة الهاشمية هي حصنهم الحصين، وأن التراحم هي السمة التي طبعت تعامل الأسرة مع الشعب الأردني، في بلد ناشئ على هوية ملتبسة في الجغرافيا السياسية، وفي التكوين الديموغرافي.
وتجربة الأردن تفسحُ المجالَ للتعبير عن الاختلافات والتباينات، سواء تحت سقف البرلمان أو في الشارع.
الملك عبد الله الثاني تجاوز بدوره محن الجغرافيا ومفاجآت التاريخ، واضطرابات الإقليم بعد الخريف العربي، وضياع الشرق العربي. وبقدرة واضحة استوعب نزوحاً بشرياً إلى مساحة صغيرة ودولة تنوء بمسؤولياتها.
لقد كان الأردن من أكثر البلدان تضرراً من عدم الاستقرار السياسي في المنطقة. دفع الثمن مرات جراء عبور الحدود لمئات الآلاف من العراق بعد غزو أميركا للعراق، وفرار أكثر من مليون سوري بعد 2011. الأردن ضحية الجغرافيا السياسية، بين ثلاث دول لا تزال إلى هذا اليوم غير مستقرة.
ودائماً كانت لدى ملك الأردن عبد الله الثاني مهمة صعبة تهدف إلى الحد من وطأة الجغرافيا. شرايين الأردن موصولة بالشرايين الفلسطينية، وقضيتها العادلة، وموصولة بالشرايين العراقية التي لم تهدأ في نزف الدماء، وموصولة أيضاً بالشرايين السورية، وشعور سورية أنّ كبار اللاعبين قلّموا خارطتها ودورها.
لكن تطورات الأسبوع المنصرم في الأردن، رغم عدم وضوح الصورة بالكامل بعد عن مسبباتها ولاعبيها، هي غير مسبوقة بأسلوبها في تاريخ المملكة الحديث، ويعكس رد الفعل الإقليمي والدولي عليها جدية الموقف، رغم تخطي عمّان خطورة عدم الاستقرار.
وكشف الاهتمام الدولي والإقليمي بخضة الأردن، والتأكيد على صيانة استقراره، أن إلقاء عود ثقاب في منطقة، مملوءة بالغاز، ممنوع.
كما يعكس البيان الأميركي، بعد اتصال من الرئيس الأميركي جو بايدن، بالملك عبد الله قلقاً وجدية من واشنطن في النظر إلى الأزمة الأردنية. فهناك إشارة لدعم القيادة الأردنية مباشرة، تعميق العلاقات الثنائية، والتزام أميركا بحل الدولتين، بما يشبه الطمأنة للنظام الأردني الذي يعيش دائماً تحت هاجس الوطن البديل.
في نفس الوقت، يرسم منعطف باتجاه فض الخلل وضمان استقرار المملكة. واستئناف المساعدات الأميركية لمنظمة «أونروا» للاجئين الفلسطينيين بعد أيام على الخضة الأردنية، فيه دعم صريح للملك ولاستقرار الأردن، ويختلف عن نهج ترامب الذي فتح عدة ملفات للمقايضة، بينها أمور تمس بمصالح حيوية للأردن.
ومن منظور الولايات المتحدة، يلعب الأردن دوراً تلطيفياً في الملفات الشائكة في الشرق الأوسط، بدءاً بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني ومروراً بالأزمات في العراق وسورية.
وهناك نقطة مهمة أخرى، فقد أشارت الحكومة الأردنية إلى أصابع خارجية تحاول إثارة الفتنة في الداخل، وهو أمر غير مستبعد نظراً لمحورية الأردن، وكان لافتاً استخدام مصطلح «أجندات خارجية»، لكن علينا الإقرار بأن خضة الأردن لها بعد داخلي أيضاً.
لقد عانى النمو الاقتصادي الأردني في العقد الماضي من البطء وتفاقم الفقر والبطالة. وإذا اعتبرنا أن ظاهرة الفساد هي ظاهرة إقليمية في الشرق الأوسط، فإن أثره يتفاقم في مناخ احتدام الأزمة الاقتصادية. وقد فاقمت جائحة «كورونا» من خطورة الوضع الاقتصادي في الأردن، ورغم أن الأردن قام بعمل لائق بالمقارنة مع العديد من الدول في محاصرة هذه الجائحة، إلا أن العبء الاقتصادي للتدابير الصارمة التي فرضتها الحكومة زاد بشكل كبير من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية.
كما أن النمو المجتمعي والحضري، في عهد الملك عبد الله، ألحق تبديلاً في بنية المجتمع والاقتصاد الأردني، إذ تراجع الدور الاقتصادي للبنى القبلية والعشائرية، ونمت طبقة متوسطة مدينية نشطة، وتسارعت الهجرة للمدن والبلدات لتصبح العلاقات المدنية والطبقة المتوسطة هي النمط المهين للعلاقات السياسية والاقتصادية وصارت التجمعات المدنية والثقافة المدينية جوهر الحراك المجتمعي.