كان صباحا ماطرا و كنت أهم للخروج من منزلنا للذهاب الى مدرستي الابتدائية (الثالث الابتدائي) . و ما ان خرجت من المنزل رأيت الجنود يقودون شابا بلباس مدني . كان في أوائل العشرينيات من العمر . منتصب القامة و شعره يميل للون الاشقر .لقد اغمضوا عينيه و أوقفوه على حائط جيراننا المبني من بعض الصخور الصغيرة وكانت تتدلى اوراق شجر الخروع فوق رأسه . ذهب احد الجنود الى الجهة اليمنى و كان يحمل كاميرا تصوير و ذهب أخران بعيدا الى الجهة المقابلة . انتابني الخوف و الذعر و كنت أسير بخطوات بطيئة و كان المطر فوق رأسي فالتصقت بالحائط قرب احد أعمدة الكهرباء الخشبية .و ظننت للوهلة الأولى أنها طريقة لتصوير الأفلام . و ما هي الا لحظات و اذا بصوت الرصاص يخترق أذني و ارتطم رأسي بالعمود .
لم أكن اعرف اين يجب ان انظر .الى الجنود ام الى الفتى ..و لكن المنظر فرض نفسه على عيني .فقد كان الفتى يتلوى على الأرض بين برك المياه الصغيرة و قد تلونت باللون الأحمر .استمر المشهد وكأنه دهرا حتى استقر الفتى على الأرض غارقا في دماءه .و ركب الجند ناقلتهم و فروا ..كان الشعر الاشقر يلتصق بالحائط و قد تلون بعضه بالأحمر ..لقد تمسمرت في مكاني و كنت أبكي و لا أقدر على الحراك حتى سمعت صوت أصوات الجيران و هم يصرخون و يولولون و لا حول و لا قوة لهم ..و لكن شيئا وحيدا كان يتحرك من بعيد في اتجاهي راكضا ..لقد كانت أمي تجري و قد فقدت صوابها و لم تسمع صراخ الجنود عليها لكي تبتعد و لكنها لم تكن ترى في كل المشهد الا ولدها الذي اجهش بالبكاء. الرحمة لروح الفدائي ، و روح أمي فهم لم يغادروني أبدا حتى هذه اللحظة.
ماساة و جريمة حقيقية كتبها الدكتور . ذو الفقار سويرجو؛ فهل يمكنك أن لا تبكي وأنت تقرأها؟ هل يمكنك أن لا ترى أن فلسطين أجمل وأروع من أن تكون بهذه الصورة . انتظر حتى تمر اللحظات المفجعة..لكن لايمكن أن تختصر. للأرواح والعقول أسرار أكثر غوراً ، تلك الحكمة كي يصل إليها الانسان لا بد أن تكون نحتته الحياة حتي نقشت وشكلت الأفكار التي تؤهله من إدراك الحجم الطبيعي لما يكتب ؛ وللمثقف الكبير ذوالفقار سويرجو ، من اسمه نصيب. فكما هو الاسم؛ معقد..لا يُنطق بيسر إلا بعد قراءة متأنية.. لكن لا يصعب فهم شهادته ، الأصلية ذات السطور القصيرة - الصادقة - إلا بقراءة متأنية تفصل بين خيوطها المتداخلة، وتحلل مساراتها متتبعةً و تقاطعاتها الكثيرة التي تدفع نحو ذروة الأحداث، في صدق وايجاز ، دون زخرفة او تزييف ؛ لنسمع .. صرخات الضحايا و اناتهم، ونلمس جراحهم السخينة بل نشاهدوهم ايضا وهم يساقون الى المعتقلات وغرف التعذيب المظلمة.
الذكري مغرقة في المرار والألم ، كما سجلها بواقعها وعرضها عرضا وافيا ، بالأحداث التى تنمو في تطور غير طبيعي ؛ وبتناغم مع ظروف الزمان والمكان ، نري .الفدائي البطل . لا يتحرك وفق ارادته دون ادراك لما يخبئه له القتلة ، الى ان تصل الاحداث الى قمة الفاجعة .وهي ان تموت وانت في ريعان شبابك. ولا يمكنك تأدية صلاتك الاخيرة. فكتب ما شاهده ، اسماها "ذكريات اليمة" بالقدرة الفائقة للذاكرة على طي سنوات طويلة سكنها السواد والحزن.
لنري البراءة تتلوى بين مخالب الغدر والاجرام.
و يقدم لنا التاريخ القريب امثلة شنيعة لا تنسي في كل كلمة من صفحاته ؛ لتلك السلوكيات المشينة، التى يصنعها القتلة و سفاكي الدماء والبلطجية المشوهون، بين الحين والآخر.. و ليست الا تعرية لهم ، وفضح السلوك الدموي ؛ كي نتوجه لكل دول العالم ونقول. اننا ندافع عن ارواحنا وأولادنا ضد كيان ارهابي ، يذبح نساءنا و اطفالنا.. و بكل صراحة ووضوح، اذا كنت تطبع مع الصهاينة، فانت تمول الارهاب وتساعدهم في قتل المدنيين ، تحت الضربات المميتة والقصف العنيف .. ولن يتم التسامح معكم. فالدم حد فاصل بيننا وبينهم، فلا حوار مع مجرمين أو سفاكي دماء.
وبينما تقرا هذه السطور ، ارجوا منك ايها القارئ العزيز ان تذكر دائما اولئك الذين استشهدوا ، والذين ينتظرون سنوات في غياهب السجون النازية ؛ بين لحظة واخري دون خوف او ندم ، فهم واثقون ومؤمنون بعدالة قضيتنا الشريفة العادلة؛ مؤمنون بمبادئهم . ولا تنسي الشهداء الذين دفعوا حياتهم ثمن حرية واستقلال شعبنا، فعاشوا كراما و ماتوا كراما.. وضحوا في سبيل تحقيق الحلم من أجل فلسطين ، الثائرة والمتطلعة نحو الاستقلال والحرية ومستقبل أكثر عدلا وإشراقا.