"شفيقة ومتولي"... زيارة جديدة ..تحسين يقين

السبت 03 أبريل 2021 11:18 ص / بتوقيت القدس +2GMT
"شفيقة ومتولي"... زيارة جديدة ..تحسين يقين



"والساهي يبطل سهيانوا"!
التراجيديااااااا.. هل تطهرنا؟ هل تغير مسار الطريق إلى مستقبل أجمل؟! أكان دوماً لا بد من الألم، والدموع، الدم؟ كيف تتكرر الآثام والخطايا بحق الأفراد والجماعات والأمم؟
وحين تتكرر التراجيديا فإنها، على الرغم من سخريتها، تظل تراجيديا مؤلمة، وهنا هل سيكون للكلمة دور حتى لا يتكرر كل ذلك الجنون؟ هل سننضج أفراداً وجماعات أم هي الدنيا غابة وإن تحسنت أساليب العصر؟!
ترى ماذا أراد علي بدر خان وشوقي عبد الأمير وصلاح جاهين قوله في فيلم "شفيقة ومتولي؟".
مرة أخرى نحن إزاء تاريخ شخصي للوعي على الفيلم، من طفولة ابن 12 عاماً، مروراً بتكرار المشاهدة فتى وشاباً، وكهلاً، لأحد الروائع. في الطفولة، على الرغم من المعنى المباشر، من وقوع المأساة على خلفية سلوك الأخت، فإنني شعرت بأن هناك أمراً آخر، له علاقة بعلية القوم المطربشين. وفيما بعد، حيث قرأنا سطوراً عن قناة السويس، تذكرنا الفيلم، ثمة أمر إذن أبعد من سلوك شفيقة، إنه سلوك النخبة الحاكمة. صرت عندما أشاهد الفيلم أتذكر كل ذلك، وصولاً لنقد الحاضر من خلال عرض الماضي رواية وفيلماً.
ظهر الفيلم عام 1978، في فترة ليس سهلاً حتى الآن تناولها، وقد كان من المفروض أن يقوم بالإخراج المرحوم يوسف شاهين، الذي أخرج فيلم "عودة الابن الضال" قبل ذلك بعامين، أي العام 1976، ولكن بسبب ظروفه الصحية لم يستطع أن يواصل التصوير بعد أسبوع من العمل، فأوكل المهمة إلى المخرج الشاب علي بدرخان، تلميذه، والذي عمل معه مساعد مخرج من قبل، فقام بدرخان بإعادة صياغة السيناريو مع صلاح جاهين، واكتفى شاهين بإنتاج الفيلم، إلا إننا رأينا رغم ذلك روح شاهين السينمائية والناقدة.
في "عودة الابن الضال"، كانت النهاية دموية تراجيدية، كذلك هنا في "شفيقة ومتولي"، حيث لربما، كان لا بد من التراجيديا في المكان والزمن المناسب، باتجاه كلاسيكي تنفيراً من الفساد في الحكم، الذي استمر فترة طويلة، من خلال "حدوتة" تم عرضها ضمن رمزية واقعية.
ترى ماذا أراده يوسف شاهين من قبل، وعلي بدر خان من بعد؟
ممم... وما الذي أريده وربما آخرون شاهدوا وما زالوا هنا وفي بلادنا العربية أو حتى من شاهدوا الفيلم مترجماً؟
تلك فضاءات الفنون والآداب، وكل وما يشتبك به بما لديه من مواقف وأفكار، هدفها إنساني ووجودي التزاماً بالمجتمعات والبشر. أي باختصار وصراحة: الحكم الرشيد، العادل، المستجيب لحاجات الناس وحقوقهم، والذي يعرفهم بواجباتهم، من خلال تداول السلطة، والتي تكون الانتخابات طريقاً مسالماً مقبولاً.
لعل بدرخان أراد بإيحاء ما من خلال قصة شعبية تاريخية تقديم نقد سياسي لما بدأ يتكون من تحالف سياسي واقتصادي في بدايات الانفتاح الاقتصادي، الأهم الآن هو أن الفيلم ما زال له دوره، إنه خلود الروائع.. لقد أبدع المخرج وطاقم التمثيل.
في فيلم "شفيقة ومتولي" أكثر من جانب، أولاً السياق التاريخي، ثم وجود المرأة وسطوة الذكور عليها في ظل وجودها بلا سند، حيث اقتيد أخوها متولي للعمل في قناة السويس، وعلاقة الحياة الاجتماعية بمنظومة الحكم نفسها التي يتحالف فيها تاجر البشر بالأفندي السياسي الفاسد، والتي سخرت منها شفيقة في أغنية "بانوا بانوا" التي أبدعتها الراحلة سعاد حسني. والأهم في دلالات إسقاط ما كان أمس على اليوم (عندما عرض الفيلم آخر السبعينيات).
تستدعى السلطة عشرات الآلاف من الشباب للعمل سخرة في قناة السويس، يترك متولي شقيقته وحدها مع الجد، حيث تضطرها الظروف القاسية للاستجابة لإغراءات ابن شيخ البلد دياب، الذي يوهمها بالحب والزواج. وتكتشف البلدة العلاقة الآثمة بينهما، فتضطر إلى الرحيل برفقة القوادة هنادي إلى أسيوط. في أسيوط يعجب الطرابيشي الذي يقوم بتوريد عبيد إلى شركة قناة السويس بشفيقة، وتصبح عشيقته، وتبدأ في كشف طبيعة عمله، ويسلمها الطرابيشي لأفندينا أحد رجال الخديوي كرشوة كي يضمن سلامته بعد أن ورد اسمه في لجنة التحقيق الدولية، فتضيق من بؤسها وهوانها، فتعود إلى بلدها، رغم ما تتوقعه من نهاية دامية يوماً على يد أخيها. وتنكشف فضيحة الطرابيشي في تجارة العبيد. يعود متولي إلى قريته، بعد أن يرى وشم صورة أخته على ذراع دياب، الذي يقتاد إلى العمل في القناة، بعد أن تم تسريح أبيه، فيعرف العلاقة بين أخته ودياب فيقتله ثم يهرب من عمله لغسل العار، ولكن قبل ذلك كله تسبقه رصاصات أفندينا الذي يعدّ الشريك الأول مع الطرابيشي في تجارة العبيد، فقد قرر أفندينا التخلص من شفيقة حتى لا تفشي سره، وسر الطرابيشي، وتموت شفيقة برصاصات أفندينا، الذي يفاجأ بمعرفتها بما يدور في الصحراء، حين قلبت مشهد اللعب الدرامي الكوميدي لإحدى فرق الموالد، إلى محاكاة تراجيدية حين تطلب منهم تمثيل مشاعر موتى الكوليرا والعطش من عمال حفر القناة.
وأظن أن أغنية "بانوا بانوا"، التي كتبها صلاح جاهين ولحنها الموسيقار كمال الطويل، كانت قمة النقد السياسي. ربما شاهدتها وسمعتها عشرات إن لم يكن مئات المرات، حتى أنني عدت لمشاهدة فيلم "شفيقة ومتولي"، لأجل رؤية الأغنية ضمن السياق الدرامي للفيلم، حتى أنه قيل: إن الأغنية الرئيسية في الفيلم "بانوا بانوا" كانت من أسباب شهرته. وأنصح بتأمل سيميائي لأغنية سعاد حسني لأنها فعلاً تختصر كل الكلام، بل أنصح بمشاهدة هذه التراجيديا السينمائية كلها.
تبدأ الأغنية التي استغرقت سبع دقائق، بتناول شفيقة كأس نبيذ، ما أن تشربه حتى تطلب آخر، ترقص بنزق وبحركات الوجه واليدين والجسد احتقاراً للطرابيشي الذي باعها، وضيوفه، (بمن فيهم روبير الطبيب المتورط في الفضيحة)، في حين يكون أفندينا ينظر من الشباك بشبق نحوها.
بانوا بانوا بانوا على أصلكوا بانوا والساهي يبطل ساهيانو
ولا غِنا ولا سيط دولا جنس غويط وكتاب ما يبان من عنوانه
جربنا الحلم المِتعايق أبو دم خفيف وبقينا معاه إخوة شقايق..
فاكرينه شريف أتاريه مش كدا على طول الخط الطبع الردي من جواه نط
خلاص بقى مهما إنشال وانحط ما فيش دمعة حزن عشانه

هو نقد رمزي لرجال الحكم في فترة سابقة، من خلال نقد عشاقها الكاذبين، غير المأسوف على رحيلهم، بسبب ما هو كامن داخلهم من سوء. ثم تنتقل القصيدة إلى المرحلة الثانية من تحولات الحكم، حيث يتكرر الفساد نفسه، فتوجه النقد للطرابيشي وكل من سار على دربه في القرن العشرين والواحد والعشرين:
وعرفنا سيد الرجال عرفنا عين الأعيان
من بره شهامه وأصاله تشوفوا تقول أعظم إنسان
إنما من جوه يا عيني عليه بياع ويبيع حتى والديه
وأهوا ده اللي اتعلمناه على إيديه القهر وقوة غليانه
وهنا، ثمة حزن مغلف بنفور، كأن شفيقة هنا مصر، أو أي بلد مورس عليه فعل الاستبداد، حيث تلجأ للهروب من واقعها عبر الشراب، وختمت: القلب على الحب يشابي والحب بعيد عن أوطانه.. في دلالة على النقد الحاد:
دوروا وشكوا عني شويه كفاياني وشوش ده أكم من وش غدر بيا ولا ينكسفوش
وعصير العنب العنابي العنابي نقطه ورا نقطه يا عذابي يا عذابي
يكشفلي حبايبي وأصحابي يوحدني وانا في عز شبابي
القلب على الحب يشابي والحب بعيد عن أوطانه
بانوا .. أيوه بانوا  أهو كدا بانوا على أصلكوا بانوا
ثمة خيط أيضاً دقيق لم نكن ننتبه له من قبل، له علاقة أيضاً ببطلة الفيلم، حتى أننا لا ندري الدمعة المترقرقة في عينها وهي تغني: "دوروا وشكوا عني شويه كفاياني وشوش ده أكم من وش غدر بيا ولا ينكسفوش".. أكانت رثاء لحظ شقيقها أم مصيرها هي، الذي يؤول أيضاً إلى نهاية دامية أمام إحدى عمارات لندن.
اليوم ونحن نتأمل السفينة الجانحة في قناة السويس، نتذكر القناة التي استغرق حفرها 10 سنوات (1859 - 1869)، من خلال سواعد مليون عامل مصري، مات منهم أكثر من 120 ألف أثناء عملية الحفر نتيجة الجوع والعطش والأوبئة والمعاملة السيئة. لم يخفف حزن المصريين إلا بعد أن قام الرئيس عبد الناصر بتأميمها عام 1956، على الرغم من الضريبة الباهظة التي تمثلت بالعدوان الثلاثي على مصر.
لعلنا لا نتطهر شعورياً فقط، بل أن نغيّر الحال بحال أفضل، ارتقاء لأنفسنا وأرضنا من خلال صلاح الحكم ونبله وشفافيته.

Ytahseen2001@yahoo.com