ملاحظات من تجربة شخصية على أسباب شرذمة قوى اليسار..محمد ياغي

الجمعة 02 أبريل 2021 03:54 م / بتوقيت القدس +2GMT



لا أعرف عدد القوائم الفلسطينية اليسارية التي سجلت للمنافسة في انتخابات أيار القادم للمجلس التشريعي، ولكني على يقين من متابعتي لفشلها بالاتفاق على قائمة موحدة بأن عددها يصل إلى أربع إن لم يكن أكثر.
قبل ثلاثة عقود غادرت موقعي التنظيمي في أحد تنظيمات اليسار الفلسطيني بعد أن شاءت الظروف أن ألتقي بما يزيد على ستين من قيادات تنظيمات اليسار المختلفة وعناصرها لمدة شهر في أحد السجون.
كنت من المستمعين لحواراتهم مع بعضهم ولم أكن من المشاركين الفاعلين فيها.
كانت أجواء العمل السري والمركزية الديمقراطية تمنع أعضاء التنظيمات الفلسطينية اليسارية من معرفة ما يجري من نقاشات وصراعات داخل الأطر العليا القيادية لتنظيماتهم، وكان كل ما يعرفه أعضاء التنظيم هو ما ينقل لهم على لسان مسؤول الخلية التي ينتمون لها.
لهذا كان السجن فرصة لي للتعرف إلى ما تقوله قيادات هذه التنظيمات بشأن الخلاف بينها وبشأن رؤيتها لكيفية الوصول إلى أهدافها.
الملاحظات التي خرجت بها عن تنظيمات اليسار محدودة لكنها كانت كافية لأن أغادر اليسار تنظيماً وليس فكراً، لأني ما زلت مؤمناً بأن الحقوق الاجتماعية مثل الحق في التعليم والعلاج والسكن والحياة الكريمة يجب أن تكون جزءا لا يتجزأ من الحقوق الأساسية لأفراد الشعب، أي شعب، بالتوازي مع حقوقه السياسية والمدنية. كانت هذه قناعتي سابقاً وهي ما زالت إلى اليوم.
أول ملاحظة لي كانت أن هنالك ميلاً لدى جميع قيادات تنظيمات اليسار لتعظيم الخلافات الثانوية بينها بدلاً من رؤية القواسم المشتركة العديدة.
الخلافات بالكاد يمكن رؤيتها والتعرف إليها لكنها حاضرة في كل نقاش، وكأن المطلوب إظهارها للعلن بدلاً من التركيز على القواسم المشتركة الكثيرة والجامعة وتجاهل الخلافات الثانوية.
ثاني ملاحظة كانت هي الميل لشرعنة الانقسام بينهم بإعادة أسبابه دائماً إلى جذوره التاريخية التي أدت إلى ظهور العديد من التنظيمات اليسارية من رحم كل تنظيم.
الخلافات التي أدت إلى انقسام تنظيم يساري في مرحلة تاريخية لم تعد موجودة بسبب العديد من المتغيرات السياسية التي أدت لاحقاً بتنظيمات اليسار جميعها إلى الالتقاء نظرياً على تشخيص شبه موحد «للمرحلة» وعلى رؤية شبه موحدة لكيفية التعامل معها. لكن قادة هذه التنظيمات لا يزالون يستحضرون من ذاكرتهم ومن أدبياتهم «القليلة» جذور «خلافاتهم» التاريخية دائماً في نقاشاتهم الداخلية وكأن هنالك رغبة ما في إضفاء الشرعية على حالة انقسامهم.
ثالث ملاحظة كانت هي فقدان قيادات اليسار للطموح السياسي. أعضاؤهم أكثر ثورية من قياداتهم وأكثر رغبة في قيادة الجمهور وتحمل ما ينتج عن ذلك من خسائر على الصعيد الشخصي.
مبرر وجود أي تنظيم سياسي هو العمل من أجل استلام السلطة عبر الانتخابات عندما يكون الصراع داخل نظام ديمقراطي، ومن خلال الثورة عندما يكون النظام غير راغب بالتبادل السلمي للسلطة.
فقدان الطموح السياسي يؤدي في العادة إلى برامج كفاحية متدنية لأن «القيادات» لا ترغب في تحمل نتائج رفع سقوف برامجها التي قد تعرضها للصدام المباشر مع الاحتلال مثلاً في الحالة الفلسطينية.
رابع ملاحظة اكتشفتها أن تنظيمات اليسار كانت سرية على أعضائها فقط وليس على الاحتلال مثلاً أو الحكومات التي تعمل في دولها.
السرية بهذا المعنى كانت تهدف لإلغاء الديمقراطية داخل هذه التنظيمات واستبدالها بالمركزية المطلقة. الديمقراطية - المركزية لم تكن أكثر من سلطة مطلقة لقادة تنظيمات اليسار على أعضاء تنظيماتهم هدفها المحافظة على وجود «القيادات» في أماكنها دون أن ينازعها أحد من قواعدها على مواقعها وبتقاسم واضح لمواقع القيادة بينها.
خلاصة ما توصلت له قبل ثلاثة عقود أن التنظيمات اليسارية هي أشبه باستثمارات خاصة لقادة كل تنظيم منهم.
هذا الاستثمار لا يهدف إلى تحقيق البرنامج السياسي المعلن ولكن الوصول إلى موقع سياسي في النظام الذي يدعي أنه يسعى لتغييره أو إصلاحه: ربما وزير أو عضو لجنة تنفيذية وربما ما هو أدنى من ذلك مثل مدير عام.
البعض يؤسس شركة للربح لأن لديه رأس مال نقدياً، والبعض يؤسس تنظيماً لأن لديه رأس مال سياسياً.
صاحب الشركة هدفه الربح المالي وصاحب التنظيم هدفه الموقع السياسي الذي يفتح له الطريق لاحقاً للربح المالي أيضاً.
تعظيم الخلافات الثانوية، اجترار التاريخ، انتقاد الآخرين دون تقديم البديل وقوة المثال هي مجرد أدوات للحفاظ على التنظيم وبالتالي على هذا الاستثمار الذي سيؤدي عندما تأتي الفرصة المناسبة لقطف ثماره باحتلال صاحب التنظيم لموقع سياسي.
مشاكل التنظيمات اليسارية هي جزء من مشاكل الحركة الوطنية الفلسطينية بما فيها حركة «فتح» التي تحتاج إلى تحليل خاص بها، لأن القوائم المسجلة للانتخابات تخبرنا بأن مشاكل حركة «فتح» لا تختلف وربما تكون أعمق من مشاكل اليسار كونها التنظيم الذي قاد المشروع الوطني منذ ستة عقود ونيف.
في وضع السرية فيه لم تعد مطلوبة لأن كل التنظيمات اليسارية تمارس عملها علناً لا أعرف حقيقة السبب الذي يمنع تنظيمات اليسار من الاتفاق على حل نفسها وفتح العضوية للانضمام لتنظيم يساري واحد يقوم أفراده بانتخاب قياداته بشكل دوري...اللهم إلا الأسباب التي ذكرتها أعلاه.