وصلت، متأخرا، تعقيدات السفر عبر الجسر والإجراءات الاحتلالية المعقدة، وبلادة العاملات والعاملين في الجانب الاحتلالي بددت الوقت، وحين وصلت بوابة البيت في عمان كان المشيعون يعودون بعد أن أنجزوا مهمة متعجلة، هكذا وصلت، متأخرا، عن جنازة أمي.
بعد تخطي عتبة البوابة الحديدية العريضة، وقبل الدخول في الممر الضيق نحو مدخل البيت حيث تتكئ ياسمينة كريمة على شباك منخفض، تكسر الكلس عن مظلة الباب وفرش المدخل بمزيج من التراب والإسمنت المفكك وقطع الكلس البيضاء الرقيقة، هنا بالضبط مرق بموازاة كتفي شحرور بمنقار أصفر، كان قريبا بحيث شعرت بخفقة مروره وهبة الهواء الذي بعثه ذلك المرور على وجهي، عبرت صيحة الطائر الموقعة الكثيفة بحمولاتها كاملة، الأسى والاستغاثة والنداء، صعود موسيقي واثق على سلالم غير مرئية ولكنك تدرك، على نحو ما، أنها هنا.
في الداخل، أبديت ملاحظة حول تكسر الكلس على المدخل، البيوت تحزن على أصحابها، علق شقيقي زهير.
احتفظت بعبور الطائر وصيحته
بدا لي أن الأمر بوقائعه شخصي
ارتبطت تلك اللحظة بيوم رحيل أمي في 29 آذار من العام 2006، بقي ذلك الطير بمنقاره الأصفر عالقا في ذلك الضحى، وواصلت صيحته ارتقاء سلالم غير مرئية لا نهاية لها.
"الشحرور" كان دائما من طيوري المفضلة، يطلق عليه العرب اسم "زرياب"، ومن هنا جاء لقب الموسيقي والمغني العربي العظيم "أبو الحسن علي بن نافع الموصلي"، تلميذ اسحق الموصلي، الذي افتتن به هارون الرشيد، وبقي اسم "زرياب" ملتصقا به في إشارة إلى جمال صوته وسحر موسيقاه وبشرته السمراء، كنت أراقبه في حدائق دمشق وعمان وتونس ورام الله، يبدأ مبكرا قبل الجميع ويطلق جمله الموسيقية المتعددة، ويبعث رسائله فيما يشبه شيفرة تتدرج بين الفرح والتحذير والبهجة.
لا أدري بالضبط كيف فكرت بقوة في ذلك الطائر منذ أسابيع، استيقظت وأنا أفكر به، كان حضوره قويا، لم أتبين الممر الذي سلكه ليعود بهذا الوضوح، لعله عبر من حلم أو أن صيحته التي تتردد في الحديقة في الصباحات المبكرة هي السبب، طائر حذر وجميل ومنساب يعبر بين شجرات الليمون الثلاث تحت النافذة كل صباح، تاركا صيحته على حبات الليمون الناضجة، يعبر ولا يتوقف كما لو انه يتشكل من الظلال الكثيفة للأشجار ويصعد.
مع الطائر عادت اللحظة القديمة كاملة، الانعطاف نحو مدخل البيت والكلس المنثور على العتبة، ثم عبوره المنخفض بمستوى الكتف والصيحة، والفراغ الكثيف الذي تركه رحيل أمي المفاجئ، الفراغ الذي يشبه هاوية.
هذا الصباح، كنت أفكّر بالطائر حين شعرت أن ثمة من يحدق بي، عينان صغيرتان تنظران بقوة، عندما استدرت كان يقف مباشرة خلف زجاج النافذة، بدا أنه فقد حذره تماما، كان يميل نحوي برقبته المرنة اللامعة ويصفّر بهدوء، بدا أنه يفكك صيحته وينشرها متقطعة وهادئة ومدروسة، الزجاج فقط كان بيننا.
واصل هدوءه الغريب خلف الزجاج، فكرت أن التقط له صورة، كانت تلك مغامرة ستنتهي بكسر هذه اللحظة، كنت سأرسل الصورة إلى شقيقي زهير، ولكنه انتظر، انتظر بهدوء وثقة، واصل تحديقه الغريب حتى التقطت الصورة، لم يكن خائفا.
فكرت وأنا أنظر في عينيه، كما لو أنني استدعيته من ذلك الضحى المؤلم إلى هذه النافذة.