كم بغت سلطة / على الشعب وجارت.. ثم زالت وتلك عقبى التعدي. واذكر في المقال غزة.
قال شوقي عن الفن: "اربعة خالدون في المجال الفني، شاعر سار بيته ، ورسام ضحك زيته ، ونحات نطق حجره ، وموسيقي بكى وتره". نعم.. ينجح الفن حين تفشل السياسة فعندما اشتدت في مصر حركة المقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي في الأربعينات وتصاعدت الحركة الوطنية من أجل الاستقلال، لم تَسْلم الأحزاب السياسية من الوقوع في فخ الصراع فيما بينها، ولتهدئة الوضع بين الأحزاب المتصارعة، ظهرت إبداعات الأغنية الوطنية بلمسات الثنائي: شوقي وعبد الوهاب في قصيدة قوية تدعو لنبذ الفرقة وتوحيد الصفوف: إلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلاما / وَهَذي الضَجَّة الكُبرى عَلاما / وَفيمَ يَكيدُ بَعضُكُمُ لِبَعضٍ / وَتُبدون العَداوَة وَالخِصاما.
الفن الاصيل لا يموت ، ومتي ندرك أن الفن ليس مهنة من لا مهنة له ، ولكنه ابداع وحرفة ، لابد لمن يمتهنها أن يتقن أصولها ، ويتمكن من قواعدها ، التي لا يمكن التهاون بشأنها ، وهو أمر صعب، ويجب أن يكرس المبدع الحقيقي حياته من أجله ، في لحظة تعجز عن وصفها، ولا يعيشها سوى الفنان حين يعتلى ويرى الموسيقيين يعزفون والعيون كلها شاخصة اليه.
المهم .. ازيح الستار عن الفنان الشاب عازف العود الموهوب ممسكا بريشته يرتجل تقاسمه بفيضها المتدفق السريع حينا.. او الهادئ ، كأنه الهمس الرقيق الرفيق اذا اراد له ان يتسلل عبر براعته متنفلا بخبرة الدارس ، مع الخيال الخصب والالهام المسترسل، بين قمم المقامات. لتشعر كأنه فرقة موسيقية مستقلة.
نظر الفنان الى الناس وحبا لشعبه ، بدا يغنى بقوة وعذوبة .. فلا ترغيب ولا ترهيب جاب نتيجة مع هذا الفنان! فالاستمتاع بالغناء لا يمكن أن يتم بالقهر، لذلك فالفنان عندما اصبح حرا طليقا متحرر من اى ضغوط بدا يغنى بقوة وعذوبة، و تنساب العبارات و تسيل العبرات في الاعماق وعلى الاسطح. وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ؛ بعيدا عن المسكنات اللفظية.
.. اه يا ليل /مشهد من الماضي لن يخيل على الشعب مرة أخرى حتى لو كان لا يملك إلا الستر والديون. الشعب يستغيث .. يستغيث ممن لا يعون قيمته / نهب قوت الشعب الكادح يوجب بلا استثناء استقالة الجميع / احتراق الشعب اسهل من اقاله هؤلاء / هم اساسا جثث هامده لا تحس ولا تشعر/ كفاية جباية ونهب واعتداء عليه / يا عين اه يا ليل / ولنعمل بالأجر و تحت رحمة من يسمون انفسهم مسؤولين/ . اما يكفى فشل سياسي وهو جزء من الف فشل. ولا شرعي لأنه يفتقر إلى الشجاعة التى تتمثل فى أن يتحمل متخذ القرار المسئولية عن اتخاذه وعدم إلقاء المسئولية على الآخرين.. متخذ القرار.. لا يعلم.. متخذ القرار يعمل فقط ضد مصالحة العليا للشعب و تقويض اساس المجتمع .. زيادة الاتاوات و الجباية والمكوس والضرائب على الناس.
الأحكام الباتة لا تنفذ والجهات القضائية مملوكة ملكية كاملة للسلطة التنفيذية كيف تُحمى الحقوق والحريات من عسف السلطة التنفيذية / عفوا شبه سلطة بنصف حكومتان. اه .. يا ليل. ان كل شخصية عامة شاركت في صنع مشهد سياسي ما، يجب أن تتحمل مسؤوليتها عنه ، لأن الجرائم التي تهدم حياة الشعوب لا ينبغي التسامح مع مرتكبيها. ولن نحتمي بالصمت أمام الجبايات الجائرة؛ جنب الى جنبا مع السياسات الفاشلة التي تهدد المواطن في يومه وغده، وتهدد أبناءه في أساس وجودهم ومستقبلهم.. الذي يواجه اليوم مصيرا مجهولا، في ظل محاولات السادة الجدد تثبيت قواعد حكمهم /شبه الحكم الحالي والمستقبلي ؟".
واذا ما كان الفنان كأنسان ينفعل بخشية اشباه الحكام، فهذا من حقه وليس مطلوبا منه ان يكون معارضا سياسيا فقط، وانما الفنان هنا يعبر عن انفعاله الخاص امام شبه سلطة سياسية وربع حكومة هنا وشبه حكومة هناك ، ولا تملك من الامر شيئا؟
الفنان الحر تعبر اعماله الفنية عن رؤية في لحظة تاريخية معينة. فلا تحسب عليه كمعارض.. كما انه بصوته المعطر بالموهبة بنعومة الحرير وبريق الثريات وملمس الابتهال ورهبة المحلق في دعائه؛ نسي حالته.. حال الشعب.. حالة قلق وقرف دائم، حال الميؤوس منه! او تناسي حكم شبه سلطة وحكومتان، وجاء ليشد من ازر الحضور ، رغم اليأس والبؤس والحصار ولانكسار والانقسام الاسود.. طريق الخراب والاندثار ، واندفعت الجماهير تردد خلف الفنان الذي هو اكبر من الاحزاب والكلمات والعبارات الطنانة الرنانة واكبر من زيف الانتماء.. فكان ومازال انتمائه للشعب المظلوم المصلوب على صليب من خشب الزيتون قُطع من ارضه.
هو انتماء للشعب.. للأرض. بكلماته العفوية للشجاعة والبطولة والحرية ، ضد مثلث القتل والابادة الصهيونية، وبين حكومات ومعارضة كرتونية مستأنسة للوقوف في مقاعد المتفرجين خلال السنوات الأخيرة، لا تملك من أمرها شيئًا، مكتفية بمجموعة من البيانات الحماسية كلما كان هناك ما يستدعي ؛ هي كلمات عفوية تصدر من ابن بلد ذات النخوة والبطولة ضد اللصوص والقتلة و الحرامية هو الذي لا يهاب الكلمات ولا يخاف العقوبات ولا حصار ولا فصل - بلا وصل. ولا تجميد رتبة وقطع راتب؛ ففي داخله كان يكمن المتمرد الذي طفح به الكيل. من الاشباه واصحاب المراهقة الحزبية والطفولة السياسية.. وبين شعب قابع صامتا ينتظر النهاية التراجيدية او ذهاب بلا عودة للمهرجين.. و هنا اسدل الستار ودوي التصفيق.