ترك الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب البيت الأبيض وأمريكا قاطبة على مشهد مشوش منقسم لم تعهده هذه الدولة العظمى منذ عقود طويلة ترجع لسنوات الحرب على فيتنام وحركة الحقوق المدنية. مشهد زادت ضبابيته أزمة جائحة كورونا التي كبلت العالم بأسره وجعلت أمريكا في المركز الأول في عدد الإصابات بالفيروس وعدد الضحايا إلى يوم كتابة هذا المقال. وكان السادس من يناير من العام 2021 هو ما أجج تعقيد المشهد والذي شهد اقتحاما عنيفا لمبنى الكونغرس من قبل جماعات مؤيدة للرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترمب، ومؤمنة بالفكرة التي روج لها منذ انتهاء الانتخابات وهي أن الانتخابات قد سرقت منه على حد تعبيره وبأنه هو الأحق بالسلطة ورئاسة أمريكا لفترة ثانية. نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة كانت مثيرة جدا للجدل وهي ليست المرة الأولى التي تقف فيها أمريكا على حافة جدل يتبع انتخاباتها ويطرح سؤالا لم يلقى إجابة إلى الآن يتعلق بمدى فعالية صوت الناخب الأمريكي في ظل نظام ينتهي بان يقرر المجمع الانتخابي من هو الرئيس الأمريكي القادم بغض النظر عن عدد أصوات منتخبيه. تلى نتائج الانتخابات سجالا قويا لازالت أصدائه تسمع إلى يومنا هذا، فقد كان لرفض دونالد ترمب لنتائج العملية الديمقراطية وتحريضه لمريديه في أكثر من مناسبة سببا لأن يقف اليوم في مواجهة دعوات لمقاضاته وتوجيه تهم عديدة له في مجلس الشيوخ.
وبالرغم من كل ما سبق ذكره من تداعيات إلا إن عهد ترمب في البيت الأبيض قد انتهى في مشهد غير مسبوق لمواقف مماثلة يمضي بها رئيس انتهت ولايته ليتقلد رئيسا جديدا زمام الحكم في البيت الأبيض. حيث جرت العادة على أن يتوج هذا المشهد الديمقراطي بحفل يحضره كثير من الرؤساء الأمريكيين السابقين الذين لا زالوا على قيد الحياة، وتحديدا الرئيس المنتهية ولايته ليسلم الرئيس المنتخب مكانه في تقليد أمريكي ديمقراطي عريق. دونالد ترمب أعلن في أكثر من مناسبة أنه لن يحضر مراسم تنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن وكان تماما كما وعد، فقد غادر البيت الأبيض صباح يوم تنصيب جو بايدن مصطحبا معه حقيبة السلاح النووي مما أثار الكثير من التكهنات حول كيف وأين ومتى سيسلمها لخليفته بايدن. وفي ذات يوم مغادرة ترمب تم تنصيب بايدن بحفل استثنائي في مجالات عدة لعل أكثرها ظهورا للعيان هو كم الإجراءات الأمنية التي رافقت التحضيرات لهذا الحفل وتخللته بشكل غير مسبوق. فقد اعتاد الأمريكيون في يوم كهذا ارتياد شوارع العاصمة الأمريكية في حفل يتوجون به رئيسهم المنتخب محتفين بعرس الديمقراطية الأمريكية وتسليم السلطة السلس عبر الإدارات المختلفة. هذه المرة تحولت واشنطن لثكنة عسكرية أمنية تتوزع فيها قوات الأمن والحرس الوطني والشرطة وغيرها من اذرع الأمن في زوايا العاصمة الأمريكية مشددة الطوق حول مبانيها الحكومية ومدققة بكل من يقترب منها.
هذا الاستنفار الأمني غير المسبوق تلا ما استيقظت عليه أمريكا والعالم من مشهد سيريالي اعتلى به محتجون على نتائج الانتخابات الأمريكية التي لم ينجح بها دونالد ترمب، ليقتحموا مبنى الكونغرس أيقونة الديمقراطية الأمريكية ويحطموا جزءا من ممتلكاته المادية ويضطروا السلطات الأمنية لإخلاء عدد من أعضاءه كانوا يعقدون جلسة التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية بمن فيهم مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، مما أدى إلي توقفها وخروج أعضاء الكونغرس من قاعة الاجتماعات مهرولين بصحبة رجال الأمن هربا من المقتحمين على مرآي ومسمع من العالم بأسره، تلا ذلك بساعات فرض منع التجول من قبل عمدة واشنطن وطلبه إرسال تعزيزات أمنية للعاصمة. عملية الاقتحام هذه تلت خطابا وجهه الرئيس الأمريكي حينها دونالد ترمب لمناصريه قائلا بأنه" لن يتنازل عن الرئاسة" و داعيا إياهم بشكل صريح "للتوجه لمبنى الكونغرس بهدف الاعتراض على نتائج الانتخابات" التي ادعى في أكثر من مناسبة عدم مصداقيتها وتزويرها لصالح منافسه المنتخب جو بايدين. كما دعا دونالد ترمب نائبه بنس لرفض التصديق على نتائج الانتخابات التي أنهى بها الأمريكيون ولايته عبر صندوق الانتخابات، لكن الأخير لم يفعل.
لازالت خيوط المشهد متناثرة والرواية عن من هم ومن دعمهم في مثل هذه السابقة الخطيرة لم تتضح بعد، وكثرت التقارير حول تلقيهم مساعدة من أشخاص يعملون داخل مبنى الكونغرس الأمريكي ولم تتضح لهذه اللحظة مدى دقة هذه المعلومات. اختلط المشهد على الجميع، لكن الإجماع كان على دونالد ترمب بصفته الرئيس الأمريكي وقتها كان له بالإمكان أن يتعامل بشكل أسرع مع هذه الأحداث الخطيرة أمريكيا وأن يتجه بخطاب لمناصريه الغاضبين الذين خرجت تصرفاتهم العنيفة عن ما يعتاد في الاعتراض على نتائج الانتخابات. بل يمكن الذهاب لأبعد من ذلك في ما يتعلق ليس بالتعامل مع الأزمة بل ما سبقها وكيفية تتابع الأحداث بشكل سريع لتصل لما وصلت إليه من إرهاب تعرضت له الديمقراطية الأمريكية في عقر دارها وبأيدي أمريكيين متشددين يرفضون صوت صندوق الانتخابات.
علاقة ترمب بالصحافة:
شابت علاقة ترمب بالصحافة الكثير من المناكفات منذ توليه قيادة البيت الأبيض، لكن هذا ليس الموقع الأول الذي يكون لترمب فيه مع الصحافة سجالات وجولات لا منتهية من الأخذ والرد. فلقد كان الرجل ومنذ عقود كثيرة مادة دسمة للصحافة الأمريكية كونه شخصية مثيرة للجدل كانت دوما بما تقلدت من مواقع سواء في عالم الأعمال أو الترفيه أو على مستوى شخصي في ما تعلق بعلاقاته المتعددة مادة لا تستطيع الصحافة الأمريكية أن تمر مرور الكرام بها لأنها كانت تثير فضول الأمريكيين المهتمين بمعرفة المزيد عن هذا الرجل متعدد الاهتمامات.
لكن دونالد ترمب ما قبل البيت الأبيض لم يفصل علاقته بالصحافة عن ترمب قاطن البيت الأبيض واستمر بنهج يمكن وصفه في كثير من المواقف بالعنصري والعدواني، فقد شهد كثير من الصحفيين مواقف محرجة في مواقع اتهم بها ترمب بعضهم بعدم الفهم أو أسكتهم بطريقة فظة أو تجاهل وجودهم ولم يجب على أي من استفساراتهم. ولعل المضطلع على تاريخ ترمب وعمله في عالم الترفيه عن طريق تمويل واستضافة مباريات المصارعة يعلم أن أسلوبه مع الصحافيين في كثير من المواقف قارب طريقة تعامله في جولات حلبات المصارعة، فهو يرى في الصحافة خصما لا ركنا من أركان النظم الديمقراطية وسلطة طالما وجدت مكانا مرموقا في البيت الأبيض، وترك ترمب البيت الأبيض بعلاقة مهشمة مع الصحافة كان العمل على ترميمها من أولويات خليفته بايدن وطاقمه المعاون.
ترمب ومنصات التواصل الاجتماعي:
لعل ترمب كان من أول الرؤساء الأمريكيين إثارة للجدل بإستخدامة منصة التواصل الاجتماعي تويتر لقول ما يريد قوله في كثير من المناسبات. لا بل كان حسابه على هذه المنصة مدعاة لتأثر بورصات العالم صعودا وهبوطا، وما انكفئ ترمب منذ بداية توليه رئاسة البيت الأبيض إلى أواخر أيامه هناك يستخدم هذه المنصة للإعلانات المفاجئة عن قضايا هامة جدا على الصعيدين الأمريكي الداخلي والخارجي. وكانت تعليقات ترمب على هذه المنصة في كثير من الأحيان تلقى انتقادات كثيرة لاتسامها بالعنصرية حينا وعدم المسؤولية أحيانا أخرى. وكانت نهاية علاقته بهذه المنصة إذ قام القائمون عليها بحذف حسابه واقفاله ومنعه من استخدام المنصة في ما تلا السادس من يناير من أحداث هزت المشهد الأمريكي. ذلك لان القائمين على المنصة كانوا يخشون أن يغرد ترمب بما قد يعقد المشهد ويؤجج الصراع المحتدم على رئاسة أمريكا. فقد وصف ترمب مقتحمي مبنى الكونغرس بأنهم "وطنيين" في دعوى مبطنة لموافقته على ما يقومون به من اعتراض بطريقة همجية عدوانية على ما كان من المفترض أن يكون ديمقراطية تتبجح بها الدولة العظمى. لم يكن تويتر وحده من حجب حسابات دونالد ترمب ومنعه من قول أي شيء جديد فقد انضم لتويتر كل من فيس بوك ويوتيوب ليحجب ترمب نهائيا من التواصل مع العالم عبر حساباته المثيرة للجدل في كثير من المواقف.
خطاب دونالد المواطن الأمريكي بكل ما يحمل من تفاصيل لم يختلف عن خطاب دونالد ترمب الرئيس فهو لم يكن قادرا على رسم خط واضح ما بين شخصه كمواطن وموقعه كرئيس وهو في كثير من المواقف كان يؤكد انه لم يأتي من خلفية سياسية فهو وأن كان مرشحا للحزب الجمهوري إلا انه جاء من خلفية رجل أعمال صادق الكثير من السياسيين و المستنفذين لكن السياسة لم تكن في مسار حياته قبل توليه رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.