عن المحكمة الجنائية الدولية وقرار بدء التحقيق..سنية الحسيني

الخميس 11 مارس 2021 12:19 م / بتوقيت القدس +2GMT



قررت المحكمة الجنائية الدولية الأسبوع الماضي فتح تحقيق رسمي في الجرائم التي تقع ضمن دائرة اختصاصها في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وصدر هذا القرار بعد شهر فقط من قرارها بانطباق اختصاص المحكمة على تلك الأراضي، وجاء على الرغم من مساعي إسرائيل، عبر دول صديقة لها وأعضاء في المحكمة، لتعطيل قرارها بفتح التحقيق، تماماً كما سعت قبل ذلك بالتشكيك بمدى انطباق اختصاصها على الأراضي الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن المحكمة الجنائية لا تفصل بالنزاعات الحدودية أو تحكم في مسألة الحدود، حسب تأكيدات قضاة المحكمة، وجاء قرارها بانطباق ولايتها الإقليمية على الأراضي الفلسطينية انطلاقاً من قرار الجمعية العامة عام ٢٠١٢ بمنح فلسطين صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة، وانطلاقاً أيضاً من قرار المحكمة بقبول عضويتها عام ٢٠١٥، الا أن قرار المحكمة اعتبر أن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧ تقع ضمن نطاق تحقيقاتها.
يضع قرار فتح التحقيق إسرائيل أمام تحديات قانونية وسياسية خطيرة، اذ أدانت المحكمة منذ تأسيسها عام ٢٠٠٢ تسعة متهمين بارتكاب جرائم، تم تبرئة أربعة منهم بعد ذلك، كما أصدرت ثلاثاً وثلاثين مذكرة اعتقال حتى الآن. تهكم بنيامين نتنياهو على قرار المحكمة الجنائية متسائلاً: هل يعتبر اليهودي الذي يعيش في وطنه مجرم حرب؟ بينما رحبت حركة حماس بقرار المحكمة مؤكدة أن مقاومتها حق مشروع يكفله القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، في حين أدانت الولايات المتحدة قرار المحكمة، وأعربت عن مخاوفها من إخضاع إسرائيليين لتحقيقاتها.
تذرعت إسرائيل بأن فلسطين لا تمتلك مقومات دولة ذات سيادة، مؤكدة أن مظاهر السيادة التي تمتلكها تبلورت من خلال اتفاقياتها معها، وأن تلك الاتفاقيات تقوم على أساس حل النزاعات بالتفاوض. وأخلّت إسرائيل بالتزاماتها في اطار اتفاق أوسلو الذي نص على انسحابها من الأراضي المحتلة خلال خمس سنوات من توقيعه والتفاوض حول قضايا الحل النهائي خلال تلك الفترة. وترفض إسرائيل التفاوض مع الفلسطينيين من أكثر من عقد من الزمان، وتتجاهل مطالبهم المستمرة بوقف الاستيطان، وتواصل تغيير واقع الأراضي الفلسطينية المحتلة بالعمل على تهويدها في الضفة الغربية والقدس. وتحاصر إسرائيل قطاع غزة وتفصله عن امتداده الطبيعي مع الضفة الغربية، وتنتهك قانون حقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني في الأراضي الفلسطينية المحتلة ومصادرة حق الفلسطينيين في الحياة والمحاكمة العادلة والملكية، وهي أبسط الحقوق الإنسانية التي نصت عليها القوانين الدولية. وتمارس إسرائيل القتل العمد للمقاومين خارج نطاق القانون، وللمدنيين بقصفهم، وللمتظاهرين العزل والطواقم الصحافية والطبية، ناهيك عن الفلسطينيين العزل الذين تستهدفهم بدم بارد تحت حجج واهية في شوارع الضفة الغربية المحتلة، وتتركهم ينزفون حتى الموت.    
أكد بيان المدعي العام للمحكمة بفتح التحقيق أن التحقيق سيفحص الأحداث التي بدأت منتصف عام ٢٠١٤ والمتزامنة مع بداية التصعيد بين إسرائيل وحركة حماس في غزة والتي استمرت سبعة أسابيع. ولا يحق لإسرائيل استئناف نتائج التحقيقات، لرفضها المشاركة في إجراءات المحكمة. وفي الرأي الذي صدر عام ٢٠١٩، حددت فاتو بنسودا ثلاثة أنواع من الجرائم التي تعتقد المحكمة أن إسرائيل ارتكبتها، الأولى خلال حربها على قطاع غزة عام ٢٠١٤، والثانية خلال مسيرات العودة على حدود قطاع غزة عام ٢٠١٨، والثالثة جريمة بناء المستوطنات في أراضي الضفة الغربية والقدس ونقل اليهود اليها. وسقط في حرب عام ٢٠١٤ أكثر من ٢٣٠٠ شهيد ناهيك عن الدمار الكبير الذي خلفته غارات إسرائيل. وقتلت إسرائيل خلال مسيرات العودة أكثر من ٢٠٠ فلسطيني وأصابت آلاف المتظاهرين منهم مئات يعانون اعاقات دائمة، وغيرت من الطابع الديمغرافي للأراضي الفلسطينية بعد أن بنت عليها مئات المستوطنات ونقلت اليها مئات آلاف من اليهود للإقامة فيها.
بعد قرار المحكمة بفتح ملفات التحقيق، سيكون أمام إسرائيل ثلاثون يوماً للإبلاغ عن نيتها بإجراء تحقيقات خاصة لمواطنيها المشتبه بتورطهم في التخطيط أو التنفيذ لتلك الجرائم موضوع التحقيق، أو تحديد ما اذا كانت إسرائيل قد أجرت بالفعل تحقيقات خاصة حولها. وتبعاً لمبدأ التكامل في القانون الدولي، يقوم نظام المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق عندما تكون السلطات المحلية غير قادرة أو غير راغبة في بدء محاكمات ذات مغزى. ويؤكد الفلسطينيون وجهات حقوقية عديدة منها جهات إسرائيلية عدم نزاهة القضاء الإسرائيلي العسكري، فقد أكدت مؤسسة بيتسيلم الإسرائيلية على أن إسرائيل ارتكبت ولا تزال جرائم بحق الفلسطينيين مع إفلاتها من العقاب. ويمكن للمدعية العامة الحصول على إذن فوري من المحكمة اذا كانت ترغب في فتح تحقيق خاص. ومن المتوقع أن ترفض إسرائيل التعاون مع لجان التحقيق والسماح لها بالدخول إلى الأراضي الفلسطينية، الا أن ذلك لن يوقف لجان التحقيق عن استكمال مهمتها، فتستطيع جهات التحقيق مقابلة الشهود في لاهاي أو أي مدينة أخرى. ولم تتعاون إسرائيل مع لجان التحقيق منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية عام ١٩٦٧، فقاطعت اللجنة المشكّلة من الجمعية العامة عام ١٩٦٨ وترفض حتى الآن السماح لمثل تلك اللجان بالتحقيق في الأراضي الفلسطينية.
وستركز التحقيقات على كبار المسؤولين الإسرائيليين من رؤساء الوزراء والوزراء المعنيين والقادة العسكريين والأمنيين. بعد تحديد لجنة التحقيق المشتبه بهم، يمكن للمدعي العام للمحكمة اصدار أوامر الاعتقال بحقهم، والتي يفترض أن تكون تلك الأوامر سرية كعامل مساعد في القبض عليهم. يذكرنا ذلك بقرارات الاعتقال التي صدرت بحق قيادات عسكرية إسرائيلية قبل عدة أعوام تبعاً لنظام الولاية القضائية العالمية، والذي يسمح باعتقال متورطين بجرائم حرب في الدول التي تعمل بذلك النظام بعد رفع الفلسطينيين لقضايا ضدهم، وشكل ذلك في حينه حالة من الرعب لإسرائيل التي وضعت قيوداً على حركة قياداتها واضطرتها بعد ذلك للتدخل لدى تلك الدول بالضغط أو التحايل عليها لمنع أي اعتقالات محتملة.
تلجأ إسرائيل لأساليب عديدة لمواجهة إجراءات المحكمة وقراراتها، منها ما تمارسه في المحكمة مباشرة ومنها ما تستعد له خارج المحكمة. لم يكن قرار المحكمة الجنائية مفاجئاً لإسرائيل، سواء ذلك الذي أقر بوجود جرائم ارتكبتها أو ترتكبها أو بقرار الولاية الإقليمية للمحكمة على الأراضي الفلسطينية، فرغم عدم اعترافها بسلطة المحكمة الجنائية للنظر في جرائمها، قام مسؤولو وزارة العدل فيها ومكتب المدعي العام العسكري وعلى مدار العامين الماضيين بتوفير المعلومات اللازمة لفريق التحقيق الأولى في لاهاي في محاولة للتأثير على قراره. كما تنسق إسرائيل والولايات المتحدة أيضاً بشكل مستمر مع الدول الصديقة لها والأعضاء في المحكمة للتأثير على قرارات المحكمة لعدم اتخاذ إجراءات ضد إسرائيل. كما تضغط إسرائيل و»الإيباك» على الولايات المتحدة لإبقاء العقوبات على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية المتابعين لقضية جرائم إسرائيل فيها. ولا تخفي إسرائيل نيتها السعي لإقناع كريم خان المدعي العام الجديد للمحكمة الجنائية والذي سيخلف بنسودا في منتصف شهر حزيران القادم لتحويل تركيز المحكمة عن القضية المرفوعة ضدها. ويحق للمدعي العام تأجيل التحقيق لمدة إثني عشر شهراً تجدد لمرة واحدة، بدعوى وجود قضايا أكثر إلحاحاً في ظل محدودية القضايا التي تستطيع المحكمة النظر فيها في آن واحد.
تعتبر قرارات المحكمة الدولية قوة ردع في مواجهة ممارسات إسرائيل كقوة محتلة بحق الفلسطينيين، بعد أن اعتاد العالم أن يقف متفرجاً أمام ممارسات احتلال طال لعقود دون رادع أو عقاب. وعلى الفلسطينيين اليوم العمل لضمان تحقيق العدالة، وذلك بتوفير المعلومات للمحكمة والمدافعين القانونيين المؤهلين، وجمع الوثائق والبيانات والأدلة اللازمة للتحقيقات وقوائم بأسماء المتورطين. كما يعتبر دعم الدول الصديقة قضية جوهرية في مسار تحقيق العدالة الدولية، إذ إن العلاقات السياسية والدبلوماسية قضية أساسية في تفعيل القانون الدولي. وعلى الفلسطينيين التحرك لدى أصدقاء الشعب أكان ذلك على صعيد الشخصيات العالمية الوازنة من حقوقيين وكتاب وأكاديميين وصحافيين، بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية الدولية لمواجهة الضغوط التي يتعرض لها المدعي العام وأعضاء المحكمة الجنائية الدولية.