درج كثيرون على ترديد مقولة: "يقاس تقدم المجتمع أي مجتمع بمدى انعتاق النساء وتحررهن". مقولة تتمتع بمصداقية عندما ترتبط بعملية تحرر المجتمع ذكورا وإناثا. فلا يمكن فصل قضية النساء عن قضايا المجتمع والبلد ككل، في الحالة الفلسطينية لا يمكن فصل التحرر الوطني من الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي عن التحرر الاجتماعي. ووفقا لهذا المفهوم من الطبيعي أن تناط مهمات إزالة التمييز بنصفي المجتمع من الرجال والنساء. وتحصيل حاصل يأتي إحياء يوم المرأة من المكونين اللذين يشكلان قوى التحرر الفعلية. الإحياء يختلف عن الاحتفالات الشكلية والقراءة السطحية لقضية المرأة، الإحياء يعني التعريف بالحقوق المشروعة، وتقييم أي إيجاب وإنجاز، وتحديد التراجع والمعوقات والاختلالات التي تكبح تحرر النساء وتحرر المجتمع ككل.
في البداية، تستحق العاملات الفلسطينيات في الجهاز الصحي كل التقدير وهن يبذلن قصارى جهدهن مع زملائهن في مكافحة فيروس كورونا الذي يفتك أو يهدد حياة المواطنين ويضعف فرصهم في العمل والتعليم. وتستحق النساء اللواتي يعملن بصمت في تأمين العيش الكريم من خلال دأبهن بالعمل في اقتصاد منزلي وفي مهن شاقة، وزراعة الأرض وتسويق منتجها للمواطنين كل التقدير والإشادة، وتستحق الإعلاميات الفلسطينيات اللواتي يطرحن الأسئلة الصعبة والجريئة، ويدافعن عن كرامة النساء وكرامة المواطن كل التقدير.
تعريف المشكلة
اعترافا منها بوجود أزمة كونية كبيرة عنوانها التمييز ضد النساء، خصصت الأمم المتحدة الهدف رقم 5 من بين 17 هدفا للمساواة بين الجنسين وتمكين النساء خلال السنوات القادمة، وذلك ضمن برامج التنمية المستدامة الدولية. التقارير واستراتيجيات العمل الدولية حول قضايا المرأة، على أهميتها في التشخيص وفي تقديم او البحث عن حلول نظرية. إلا أنها لا تعترف بالمسؤولية الرئيسية عن الأزمة، حين لا تربط تحرر المرأة بتحرر البشرية، فالنظام الاقتصادي المعولم والمتوحش كرس واقعا كونيا يزداد فيه الأغنياء غنى ويزداد فيه الفقراء فقرا، هذا النظام الذي يكرس الاستغلال والاضطهاد والتمييز والتعصب القومي والديني والعنف والغطرسة والفاشية، يشكل التهديد الأكبر للإنسانية، ويلحق أضرارا فادحة بالشعوب وبشكل خاص بالنساء اللواتي يشكلن نصف سكان العالم، وما تقوله الأرقام، إن 70% من فقراء العالم من النساء يؤكد على ذلك. النظام المعولم يعيد إنتاج الهيمنة والتمييز والاضطهاد والاستغلال - بما في ذلك حماية الأنظمة المستبدة - بأبشع الأشكال والصور، باستخدام الأشكال القديمة، وباستحداث أشكال جديدة شديدة التأثير من زاوية استغلال وتسليع النساء، ونموذج ذلك التصوير البرنوغرافي الجنسي المبتذل الواسع الانتشار، ليس كأداة سيطرة وحسب بل كأداة إذلال وإهانة للنساء وانتهاك لحقوق الإنسان قاطبة. هذا النظام الاضطهادي المتوحش هو العاجز عن إزالة الاضطهاد عن النساء، وهو الذي يستعيض عن الأفعال والتزام الخطط بالأقوال وبإدارة الأزمات، ويتجاهل وضع خطط للقطاعات الواسعة من النساء مستبدلا ذلك باستعراض أنشطة وخطابات النخبة النسوية المنفصلة عن الأجسام العريضة من النساء – أكثريتهن الساحقة -.
التعصب الديني بمختلف أشكاله هو الوجه الآخر للبرنوغرافيا في اضطهاد النساء ووضعهن داخل قبضة ذكورية وقبضة قوى مهيمنة. تقول الكاتبة السودانية: إن "أكبر معوق يقف أمام تحقيق مطالب المرأة العادلة في الشراكة السياسية ورفع التمايز وعدم المساواة، ووقف العنف ضدها، هو فهم الهوس الديني الرجعي، الذي يلقي بظلاله في حكومة الثورة، وتقع النساء فريسة له". التزمت والتعصب الديني يضع النساء في مكانة دونية، لأسباب بيولوجية تتجاهل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافة السائدة في تكريس تقسيم العمل الذي لا يعترف بالتطور البشري. وهي الأسباب ذاتها التي سيقت لتبرير التمييز العنصري ضد السود، كطغيان العاطفة على استخدام العقل وغير ذلك من صفات بيولوجية.
تتميز نساء فلسطين عن غيرهن بتعرضهن لاضطهاد مزدوج يجمع بين اضطهاد وقمع الاحتلال الإسرائيلي للنساء كجزء من اضطهاد الشعب الفلسطيني الى جانب اضطهاد وتمييز المجتمع الفلسطيني ضد النساء. أي تدقيق في المشهد الرقمي لمكانة المرأة في المجتمع الفلسطيني سيجد تناقضا بين التطور في مجال التعليم الذي يرقى الى التفوق، والاستعداد الفعلي للانخراط في العمل كحاجة ملحة، والكفاءة التي قدمتها النساء في العديد من الأعمال، هذا الواقع يتناقض مع مكانة المرأة الفعلية في منظومة القوانين وبخاصة قانوني الأحوال الشخصية والعقوبات التي تميز لصالح الذكور وتمنحهم الولاية او القوامة الدائمة وتكرس تقسيم العمل الدائم بصرف النظر عن حاجة المجتمع وتفوق او تكافؤ الإناث والحاجة الى الشراكة والتعاون من موقع متساو. وموقع النساء المحدود وأحيانا الرمزي في موقع مركز القرار السياسي والاقتصادي والقانوني (منظمة وسلطة ومعارضة وأحزابا وفصائل) يتناقض مع تطور وحاجة المجتمع، وتحديدا يتناقض مع مهمة إزالة جميع أشكال التمييز الممارسة ضد نصف المجتمع لطالما بقي القرار حكرا على السلطات الذكورية. وموقع النساء الضعيف في سوق العمل 19% والضعيف جدا في ملكيتها للأرض والعقارات والأموال عبر الإرث والعمل يتناقض بدوره مع تطور وحاجة المجتمع ومع حقها في المساواة. غير ان العنصر الأهم الذي يستطيع أن يؤثر في العوامل الأخرى هو الفكر التحرري المرتبط بمشروع تحرري، وبحامل اجتماعي يتبنى فكر وثقافة التحرر. لم يكن من باب الصدفة غياب الفكر النسوي كجزء من الفكر التحرري الأشمل، ذلك الغياب الذي يجعل شعارات المساواة والعدالة للمرأة فاقدة المضمون، ويجعل المواجهة مع الفكر الأيديولوجي المناهض للتحرر الاجتماعي غير متكافئة بل ومختلة لصالح الأخير. دعونا نعترف ان الواقع الفلسطيني الراهن لا ينتج فكرا تحرريا، ولا يواكب الفكر التحرري والتنويري الذي يتشكل في السجالات والمناظرات المتواصلة على صعيد عالمي وعربي. على سبيل المثال، تجري مراجعة عميقة للمدرسة الفكرية الدينية المتزمتة على قاعدة تغليب العقل على النقل ونزع القدسية عن أكثرية الفقهاء الذين استخدمتهم السلطات السياسية المستبدة لفرض سيطرتها، للأسف ليس من بين هؤلاء المفكرين فلسطينيون. وفي غياب التأسيس لفكر تحرري مفتوح على كل تطور وإنجاز، سنبقى نتعامل بالشعارات الفارغة، ستبقى القوانين والقرارات والتعليم والحريات والمؤسسات بتوقيع الفكر الرجعي السائد.
المصادر:
- شادي الشماوي، الخلاصة الجديدة وقضية المرأة/ الحوار المتمدن 5/3/2021.
- بثينة تروس، يوم المرأة: الهوس الديني يعوق حقوقهن/ الحوار المتمدن 8/3/2021.