إيران إذ تصعّد شروطها: تكتيك تفاوضي أم تغيير في وجهتها الإستراتيجية؟ عريب الرنتاوي

السبت 20 فبراير 2021 11:47 ص / بتوقيت القدس +2GMT
إيران إذ تصعّد شروطها: تكتيك تفاوضي أم تغيير في وجهتها الإستراتيجية؟ عريب الرنتاوي



يتفق وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، مع وجهة النظر السائدة في منطقة الشرق الأوسط والخليج، بالنظر إلى مصير «الاتفاق النووي» بين إيران والمجتمع الدولي، بوصفه مفتاحاً للحرب والسلام في الإقليم برمته، والقضية التي سيتوقف على حلها «حلحلة» الكثير من أزماته المعقدة والممتدة، ذلك أن إيران نجحت خلال العقدين الأخيرين في أن تصبح «لاعباً» يمتد تأثيره ونفوذه، من اليمن إلى لبنان، مروراً بسورية والعراق والخليج.
لكن مصير هذا الاتفاق يبدو حتى اللحظة مجهولاً تماماً، في ظل اتساع فجوة المواقف بين كل من طهران وواشنطن، فكلا الفريقين ما زال «يتمترس» خلف قائمة من «الشروط المسبقة»، ولا يبدو من دون أن تحقق الدبلوماسية معجزتها من جديد، أن أي منهما بصدد الهبوط عن قمة الشجرة التي صعد إليها خلال الأسابيع الثلاثة التي أعقبت تسلم إدارة بايدن مقاليد البيت الأبيض.
كان الاعتقاد السائد، حتى الأمس القريب، أن إيران هي «الرابح الأكبر» بخروج دونالد ترامب من البيت الأبيض، فتحتَ قيادته تعرضت الجمهورية الإسلامية لأقصى العقوبات، غير المسبوقة في التاريخ... وأسهمت التأكيدات المتكررة التي صدرت عن بايدن وفريقه بالعودة إلى الاتفاق النووي في رفع منسوب التفاؤل، وإشاعة مناخات من الأمل بقرب عودة الاستقرار لهذا الإقليم المضطرب.
لكن تطورات الأسابيع الأخيرة، أظهرت، أن موجة التفاؤل بفتح صفحة جديدة بين طهران وواشنطن، كانت سابقة لأوانها، وتنطوي على قدر من المبالغة، فيما «ساعة الرمل» تكاد تفرغ آخر حباتها، مع اقتراب موعد انتهاء «صلاحية» البروتوكول الإضافي المبرم بين إيران ووكالة الطاقة النووية (21 شباط)، والانتخابات الرئاسية الإيرانية (18 حزيران)، تقرع الأبواب وتُدخل أجنحة النظام وتياراته، في «بازار سياسي ساخن» يصعب معه التفكير بعقل بارد، واتخاذ القرارات الأكثر واقعية.
كانت الذكرى الثانية والأربعين لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، مناسبة للمرشد الأعلى، لتسييج مواقف فريق الرئاسة والخارجية بحزمة من «الخطوط الحمراء»، قبل التوجه لأي مفاوضات أو وساطات متعلقة ببرنامج طهران النووي: (1) رفع كافة العقوبات مسبقاً، وقبل عودة إيران لالتزاماتها بموجب الاتفاق. (2) فسحة من الوقت لاختبار رفع العقوبات، عملياً وليس لفظياً فحسب. (3) إيران وحدها لها الحق في وضع الشروط، وليس الولايات المتحدة التي غادرته بقرار أحادي الجانب.
لكن الفترة منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق (8 أيار 2018) وتسلم إدارة بايدن الحكم (20 كانون الثاني 2021)، ستشهد تطورات متسارعة في وتائر العمل بالبرنامج النووي، وصولاً لإنتاج اليورانيوم، حتى أن الوزير أنطوني بلينكن، قدّر أن المسافة التي تفصل طهران عن «القنبلة» باتت تعد بالأسابيع، وليس بالأشهر، وهو تقدير على ما فيه من «مبالغة» برأي خبراء ودوائر استخبارية أخرى، إلا أنه يعكس مستوى القلق من الشوط المحرز على طريق «عسكرة» البرنامج النووي الإيراني، الأمر الذي دفع كثيرين على المراهنة بأن عودة واشنطن للاتفاق النووي، لن تكون فورية وشاملة وغير مشروطة.
وزاد الطين بِلّةً، أن التصريحات التي تصدر تباعاً عن مختلف المستويات القيادية في إيران، تعكس شعوراً بـ»الانتصار» و»التفوق»، فقادة طهران ينسبون الفضل في إسقاط إدارة ترامب إلى أنفسهم وبلادهم وحلفائها، الذين «صمدوا» في وجه «غطرسة الشيطان الأكبر»... ولديهم رهان على أن إدارة بايدن ستكون، حتى إشعار آخر، غارقة بملفات الداخل الأميركي الضاغطة، ولديها من التحديات على المسرح الدولي، ما يكفي للحد من قدرتها على إلحاق المزيد من الأذى بإيران... فضلاً بالطبع عن إحساس عميق آخر بــ»فائض القوة»، مصدره ثقتهم بأن واشنطن ليست بوارد حرب أو عمل عسكري واسع ضد إيران، وأن إسرائيل لن تستطيع وحدها، ومن دون دعم أميركي، القيام بمغامرة واسعة ضد مواقعهم النووية، وأن حلفاء واشنطن في المنطقة قلقون من أولويات الإدارة الجديدة وتحريكها لملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهم فشلوا في الأصل بحسم حروبهم مع حلفاء إيران في اليمن وسورية والعراق، وصولاً إلى لبنان.
في تفسيرهم لميل طهران إلى تصعيد شروطها وإملاءاتها للعودة إلى الاتفاق النووي، انقسم المراقبون في المنطقة بين فريقين: الأول، رأى فيه تكتيكاً تفاوضياً لتحسين شروط «الصفقة» المحتملة مع الولايات المتحدة والغرب. والثاني: نظر إليها بوصفه دلالة على «وجهة إستراتيجية جديدة» في السياسة الإيرانية، تستهدف هذه المرة، الوصول إلى «القنبلة» بوصفها «بوليصة تأمين» للنظام، سيما بعد «التجربة المرة» التي خاضها مع إدارة ترامب، والتي تميزت بالخنق الاقتصادي والتلويح المستمر بخيار القوة العسكرية.
والحقيقة أن ثمة شعرة دقيقة بين «القراءتين»، فإيران المنهكة اقتصادياً لا ترغب أبداً في استمرار سياسات الخنق الاقتصادي التي شلت اقتصادها وعمقت ضائقتها الاجتماعية والسياسية، والمؤكد أنها تسعى إلى تفادي سيناريو المواجهة العسكرية الشاملة مع الولايات المتحدة، أو حتى مع إسرائيل، بدلالة التزامها «ضبط النفس»، رغم مئات الضربات الجوية والصاروخية الإسرائيلية لأهدافٍ تتبع لها في سورية والعراق.
لكن سوء التقدير والحساب، لطالما دفع أطرافاً متنازعة إلى الانزلاق لخيارات غير مرغوبة، وقد يحدث أمرٌ كهذا من جديد، ومن قبل إيران هذه المرة. فما لا تدركه القيادة الإيرانية أن إدارة بايدن لن تدشن عهدها بإظهار «الضعف» و»العجز» في التعامل مع الملف النووي الإيراني، رغم تصريحاتها المتكررة بتغليب «الدبلوماسية» على ما عداها من أدوات في سياساتها الخارجية. ثم، إن الولايات المتحدة لن تخوض معركتها ضد طهران وحيدة هذه المرة، فمواقف الإدارة الجديدة، تلقى قبولاً وتناغماً من قبل شركائها الأوروبيين، تحديداً بريطانيا وفرنسا، فيما تقف روسيا عاجزةً عن إقناع القيادة الإيرانية بالهبوط عن قمة الشجرة، رغم تحذيراتها المتكررة بأن ما تفعله طهران، لن يخدم عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي.
عامل الزمن لا يعمل لصالح إنقاذ الاتفاق النووي، فاستمرار إيران في تطوير أنشطة برنامجها النووي، وبما يفتح الباب رحباً أمام فرص «عسكرته»، بعيداً عن عيون المراقبين بعد انتهاء العمل بالبروتوكول الإضافي، سيثير قدراً كبيراً من الشكوك حول نيّات طهران وخططها، وسيؤلب عليها المجتمع الدولي وليس الولايات المتحدة وحدها، وهذا ما تدركه إيران التي سعت لبعث رسائل الطمأنينة للعالم بالقول: إن عدم تجديدها للبروتوكول لا يعني «طرد» خبراء وكالة الطاقة ومراقبيها بالضرورة.
إن سؤال المليون دولار، الذي يدور تحت هذه الظلال الكثيفة من الاتهامات المتبادلة، والشروط المتقابلة، إنما يتعلق بوجهة إيران الإستراتيجية المقبلة، وما إذا كانت تخلت عن «فتوى خامنئي» بتحريم امتلاك «القنبلة» واستخدامها، وهل ما زالت هذه الفتوى قائمة، أم أن دروس حقبة ترامب قد جعلت تلك الفتوى متقادمة، وربما يضيف البعض سؤالاً آخرَ: هل كانت الفتوى «جديّةً» في الأصل لكي يجري التراجع عنها، بفعل ما يقال: إنها ظروف مستجدة؟
وفي ظني، إن الإجابة عن هذا السؤال ستكون متعذرة قبل الصيف القادم، فكثير مما يصدر عن طهران من مواقف وسياسات في هذه المرحلة، إنما يرتبط أشد الارتباط بالاستحقاق الانتخابي المنتظر بعد أربعة أشهر، ورغبة التيار المحافظ والثوري (وربما المرشد)، في عرقلة جهود فريق روحاني – ظريف، وعدم تمكينه من تحقيق أي منجز كبير، يمكن أن يكون له تأثير على اتجاهات تصويت الناخب الإيراني، إذ تكاد تُجمع التقارير والمعلومات على أن ثمة رغبة حقيقة لدى هذا التيار، وبضوء أخضر من «الولي الفقيه»، بإخراج الإصلاحيين من السلطة التنفيذية، بعد أن أمكن لهما بسط سيطرتهما على السلطتين التشريعية والقضائية.
وثمة ما يشير إلى رغبة إيرانية في تأجيل «الحسم» بأي من هذه الملفات إلى ما بعد الانتخابات، على أن تستمر طهران في ممارسة كافة أنواع الضغط والابتزاز «النوويَّين» لواشنطن وحلفائها، ولكن من دون أن تقطع «شعرة معاوية» معها، ومن دون أن تتوقف عن إرسال رسائل الطمأنينة وإن بحدها الأدنى.
تقابل الرغبة الإيرانية رغبة أميركية في «تخفيف» العقوبات، ومن مدخل إنساني، لتشجيع طهران على البقاء على سكة الاتفاق وإن بالحد الأدنى من الالتزام، على أمل أن تنجلي غبار المعركة الرئاسية في طهران، فتتعرف واشنطن على مواطئ أقدامها في الرمال الإيرانية المتحركة، وتعرف مع من ستتفاوض، وعلى ماذا ستتفاوض، وأي طريق ستسلكه المفاوضات: العودة للاتفاق ذاته، العودة إليه موسعاً ومشدداً، تحويله إلى منصة لاتفاقات لاحقة تشمل دور إيران الإقليمي وبرنامجها الصاروخي، إلى غير ما هناك من خيارات واحتمالات.