معاريف - بقلم: جاكي خوجي "يوم الأحد، كشف المبعوث القطري إلى قطاع غزة على نحو مفاجئ اتفاقاً بين شركة “ديلك” للتنقيبات بملكية إسحق تشوفا، والحكومة القطرية، وآخرين. وحسب التفاصيل المعروفة حتى الآن، ستشتري قطر والسلطة الفلسطينية بشكل مشترك الغاز لمحطة توليد الطاقة في غزة من حقل لافيتان. وستمول قطر تمديد الأنبوب في البحر في الجانب الإسرائيلي. أما الاتحاد الأوروبي فسيدفع لقاء تمديده من الجدار الحدودي وحتى محطة توليد الطاقة. وستنتج شركة الكهرباء في غزة الكهرباء من الغاز الذي يورد لها وتبيعه لمستهلكيها في القطاع.
الصفقة مراحل متقدمة، وقد تلقت الإذن من حكومة إسرائيل. ويتحدث مسؤولو “ديلك” ومندوبو حكومة قطر عن السعر، ولكن اليوم الذي ينطلق فيه المشروع على الدرب قريب. وليس التيار وحده سيضاعف، بل سينخفض السعر أيضاً. تدفع قطر والسلطة الفلسطينية اليوم 22 مليون دولار على تفعيل محطة توليد الطاقة التي لا تنتج إلا 180 ميغاواط. أما في عصر الغاز فستدفعان 15 مليوناً، وستنتج محطة توليد الطاقة 400 ميغاواط. وسيضيء الغاز الإسرائيلي القطاع، وستحل مشكلة الكهرباء فيه.
لن تنفق إسرائيل دولاراً واحداً من جيبها. العكس هو الصحيح؛ فهي سترتزق من أموال ضرائب “ديلك”. وقبل أن تعطي الضوء الأخضر للصفقة، عقدت حكومة إسرائيل مداولات طويلة، وتشاورت مع الجانب القطري ومع أصدقائها المصريين، وسألها الاتحاد الأوروبي وقالت “نعم”. بمفاهيم فرع الغاز، فإن الكميات طفيفة، ولكن القصة سياسية في أساسها.
لا شك بأن 2.2 مليون نسمة في القطاع يستحقون العيش بكرامة. وإسرائيل، بصفتها المسيطرة جواً وبحراً وبراً، يتعين عليها أن تسمح بذلك، خصوصاً حين لا يكون معظم المستمتعين بذلك أعداءها، إنما مواطنون أبرياء. ورغم ذلك، فإن الكهرباء هي بيضة الذهب التي سلمت لحماس في غزة. فهي ستحل على غاز إسرائيل، وستنتج منه الكهرباء وتبيعها للمستهلكين. أما المداخيل، فتأخذها إلى صندوقها. هكذا سيساعد الغاز الإسرائيلي حماس في إنتاج المال. لن تتمكن إسرائيل من الرقابة عليه ولن تعرف أين سيضخ.
تعرف إسرائيل كل هذا، ولكنها تعيش في شرك. إذا ما تركت إسرائيل غزة لمصيرها، وسمحت لها بالغرق في فقرها، فقد تتطور الكراهية والحروب. وإذا ما ساعدتها على إعادة بناء نفسها، من خلال مشروع من هذا النوع مثلاً، فستنقذ حكم حماس.
وإن لم تعترف إسرائيل بذلك، فإن فعلها هذا وموقفها من القطاع يدلان على أنها اختارت حماس. ليس محبة، بل لانعدام البديل. فالأيام التي فكرت فيها القيادة الأمنية ومكتب رئيس الوزراء بإسقاط حكم حماس انقضت. ينبغي أن تندلع حرب مضرجة بالدماء، مثل “الجرف الصامد” كي تصعد هذه الفكرة مرة أخرى إلى جدول الأعمال. مشروع الكهرباء الجديد يثبت أن إسرائيل سلمت بوجود حكم حماس، بل وترى فيه شريكاً.
كثيرة هي السيناريوهات التي طرحت في السنوات الأخيرة لتغيير حكم حماس. إن جلب السلطة الفلسطينية بالقوة، وتتويج دحلان، وإعادة احتلال القطاع، كل منها مثير للانفعال بحد ذاته، ولكنه غير واقعي. ترفض حماس تسليم سلاحهم طوعاً، لأنها بذلك تنهي حكمها، مما يتطلب نزعه بالقوة. إسرائيل غير مستعدة لأن تدفع بدماء أبنائها كي تغير حكماً ضعيفاً نسبياً، هو تحت سيطرتها الآن، رغم أنه عدو. كما أنها لا تريد، وعلى أي حال لا تحتاج للعودة إلى حكم القطاع، فتجعل بذلك من جنودها هدفاً مريحاً لبقايا الفصائل المسلحة التي ستبقى فيه. ليس لدى دحلان كتائب، ولا للسلطة الفلسطينية أيضاً. وكل من يدعي الإحلال محل حماس، فسيعلن خائناً جاء على حراب الجيش الإسرائيلي.
تعرف إسرائيل كل هذا، واختارت أقل الشرور سوءاً. صحيح أنه من العبث خصوصاً إذا ما أثرى الذراع العسكرية لحماس بمداخيل الغاز الإسرائيلي، ولكن إسرائيل أخذت هذا بالحسبان. فمع أن الغاز سيعزز قوة السنوار ورفاقه، فإنه بالمقابل يزيد تعلقهم بإسرائيل. ثمة في هذا اعتراف بفشل استخدام القوة، ولكن فيه إغراء استراتيجياً أيضاً. كلما كانت حماس والسلطة بعيدتين ومتفرقتين، سيسهل على إسرائيل التعاطي معهما بسياسة فرق تسد.
يحمرّون خجلاً
كثيرون هم كارهو صديقتنا الإمارات في هذا العالم، ولا سيما في أوساط جيراننا. فثمة فلسطينيون غاضبون من تسكعها مع إسرائيل بدلاً من مكافحتها، وهناك يمنيون اكتووا بنار ذراعها الجوي في الغارات شبه العمياء ضد التحالف، وقطريون يرون فيها جاراً بارداً ومتعاوناً مع أمريكا وإسرائيل، وليبيون يرون فيها معولاً ينبش في بلادهم. الكثير من كل هذا كسبته أبو ظبي باستقامة. في ذاك الجزء من العالم، الجميع في تهديد وجودي من عدو حقيقي أو وهمي، وإحساس البقاء يملي سياستهم بقدر كبير. امتشاق الأظفار، واستباق الضربة بالعلاج أو تحالفات مع آخرين، كلها في أحيان قريبة وسائل دفاع، حتى وإن بدت هجومية. من نواحٍ عديدة، أبقت موازين القوى بين عواصم الخليج الواقع الذي كان هناك في العهود السابقة. حروب قبلية، ينتصر فيها القوي ويبحث الضعيف عن مأوى بكل سبيل.
على هذه الخلفية، كان غريباً مشاهدة أكوام الهزء التي سقطت على الإمارات مع دخول عبّارتهم إلى مدار كوكب المريخ. هذا إنجاز عظيم على مستوى دولي، وضع أبو ظبي على خريطة التكنولوجيا العالمية. فهي الدولة العربية الأولى التي وصلت إلى هناك بهذه الطريقة، والخامسة في العالم. أما الهزء من لدن كارهيها فمصدره أن العلماء المسؤولين عن المشروع أجانب، يابانيون في معظمهم. والهجوم عليهم يتكرر مرات عديدة وهدفه حرمان الإمارات من أساسات الإنجاز، والإظهار بأنهم لم يخترعوا شيئاً بل اشتروه ووضعوا عليه ختمهم. قوة عملهم هي الشراء، والغذاء، والآن احتلت المريخ. هكذا أيضاً المفاعل النووي الذي أقاموه لإنتاج الكهرباء؛ فقد اشتروا العلم من كوريا الجنوبية والولايات المتحدة.
النكتة على من ضحك، فهو الذي ينبغي أن يحمر خجلاً. صحيح أن الإمارات استثمرت المليارات في العبّارة وعزتها لنفسها، ولكنها البداية. في هذه الأثناء، أظهرت لسكانها بأن كل شيء ممكن، وأن التعليم نهايته النجاح، وأن مستقبل البشرية في العلم. أولاد اليوم الذين شاهدوا العبّارة بعيون لامعة، سيذهبون إلى أفضل الجامعات في العالم، وسيعودون إلى وطنهم، وسيكونون علماء الغد. هكذا توضع أساسات التميز. وهذه إسرائيل أيضاً، التي وصلت بقواها الذاتية إلى جبهة التكنولوجيا العالمية، ربت أجيالاً في حضن المفاعل النووي في ديمونا، الذي كان جله من إنتاج فرنسي. السباق إلى القمة لا يتلخص في يوم واحد، فدوماً يقف هناك هازئون على قارعة الطريق، ولكنهم في الغالب سيبقون في الوراء.