مركز دراسات الأمن القومي الاسرائيلي بقلم: يونتان تسويف وكوبي ميخائيل
نشر رئيس السلطة الفلسطينية في 16 كانون الثاني 2021 مرسوماً رئاسياً يأمر بإجراء انتخابات للمؤسسات الوطنية الفلسطينية الثلاث – الرئاسة، المجلس التشريعي، والمجلس الوطني الفلسطيني. ويقضي المرسوم بأن تجرى الانتخابات بشكل تدريجي ابتداء من أيار 2021 حتى آب 2021.
وكان المرسوم السابق لإجراء الانتخابات نشر في 2009، وألغي بمرور أقل من 120 يوماً في أعقاب الانقسام بين حركتي فتح وحماس. هذه المرة يدور الحديث عن محاولة أولى لإجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني الذي عين معظم أعضائه ولم ينتخبوا منذ تأسيسه.
نشر هذا المرسوم بينما تعيش الساحة الفلسطينية أزمة داخلية وخارجية حادة، بعد سنوات من إدارة ترامب التي دحرت القضية الفلسطينية إلى الزاوية، وعلى خلفية وباء كورونا، وتعرّض قيادتي فتح وحماس على حد سواء لانتقاد جماهيري لاذع. إن عباس، الذي أوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل في عهد ترامب محتجاً، سارع لاستئنافه ما إن علم بانتصار بايدن في انتخابات الرئاسة الأمريكية وتسبب بوقف مساعي المصالحة بين كل الفصائل الفلسطينية. أما تخلي حماس عن مطلب إجراء الانتخابات في موعد واحد لكل المؤسسات الثلاث، والذي طرح في محادثات المصالحة كشرط لإجراء الانتخابات، فقد أزال العائق أمام إجرائها.
يخلق نشر المرسوم آلية في الساحة السياسية والجماهيري الفلسطينية. فالانتخابات تعد خطوة تشهد ظاهراً على احتمال أعلى مما في الماضي بمصالحة فلسطينية داخلية. فقد أعلنت منظمات وجماعات معينة عن نيتها التنافس، وهناك أخرى، ومنها الجهاد الإسلامي، مترددة حتى الآن، بخلاف المقاطعة التي فرضوها على الانتخابات.
يسعى كثيرون لأن يروا في القيادة شخصيات جديدة، شابة، لا تتماثل مع المؤسسة القائمة، وحتى في “فتح” يبدو واضحاً ترقب سحب ترشيح عباس. ولكن هناك شكوك بتحقيق هذه الآمال. مرة أخرى، سيتنافس في الملعب اللاعبان الكبيران، فتح وحماس، اللذان يتناكفان فيما بينهما منذ سنين دون حسم.
يقف أمام “فتح” تحدٍ مهم على نحو خاص، فـ”فتح” منقسمة على خلفية خصومة شخصية إلى معسكرين. وقد يؤدي هذا الانقسام إلى انتصار حماس، مثلما في الانتخابات التي جرت في 2006، ولكن ثمة شك بأن تكون حماس -التي يشكل طريق المقاومة المسلحة الذي تتبناه هدفاً لانتقاد صاخب منذ المواجهة العسكرية مع إسرائيل في 2014- معنية بالانتصار. وذلك عقب شرعية دولية محدودة تجاهها، والتي أفرغت انتصارها السابق من مضمونه.
تسعى المنظمة في هذه المرحلة للانخراط في قيادة السلطة الفلسطينية والمؤسسات الوطنية، بما فيما م.ت.ف، وهكذا تبني لنفسها شرعية من الداخل وفي الساحة الدولية. يمكن لنشر مرسوم الانتخابات أن يعتبر في الوقت الحالي إنجازاً مشتركاً لجبريل الرجوب، مسؤول “فتح”، ولصالح العاروري، مسؤول “حماس”، اللذين عملا على تحقيق المصالحة بين المنظمتين، مع العلم أنها ليست مثابة ضمانة لإجرائها بسبب عدة عوائق:
*مشاركة شرقي القدس في الانتخابات كما يشير المرسوم الرئاسي، مشروطة بموافقة إسرائيل. ومع أنه يمكن التغلب على عدم موافقة إسرائيل من خلال التصويت الإلكتروني أو الخروج أو التصويت في خارج نطاق شرقي المدينة، ولكن المعنى سيكون مصاعب وصول، وانخفاضاً في عدد المقترعين.
*تخوف فصائل المعارضة من صدق نوايا فتح وحماس، وإمكانية أن تتنافس الحركتان في قائمة مشتركة أو توافقان على توزيع المقاعد بينهما. ولا ينفي المتحدثان بلسان الحركتين إمكانية كهذه، بل ويطرحانها كمسألة شرعية للبحث في محادثات الإعداد التي يفترض أن تجرى في القاهرة.
*اغتراب شديد من جانب الجمهور الغفير، خصوصاً في أوساط الشباب، الذي يرى في الانتخابات آلية لضمان مكانة القيادتين الفاشلتين، اللتين فقدتا الحيوية والشرعية. وعلى هذه الخلفية تسمع دعوات لإقامة أطر سياسية جديدة.
*غضب جماهيري عقب الضائقة الاقتصادية الواسعة بسبب قرار عباس عدم تلقي أموال الضرائب من إسرائيل. والغضب واضح أيضاً في أوساط العديد من الموظفين في قطاع غزة، القريبين من طاولة السلطة، ممن تقلصت رواتبهم في السنوات الأخيرة. وكل هذا قد يؤثر على مدى ثقتهم بهذه الانتخابات، بل ومحاسبتهم في يوم الانتخابات إذا ما شاركوا فيها. ويعد عضو اللجنة المركزية لحركة فتح أحمد حلس، رجل غزة، باسم عباس، لإعادة الوضع كما كان قبل التقليصات.
*نية محمد دحلان للتنافس، وبخاصة إمكانية ربطه –شعبياً- بمروان البرغوثي، وكذا انتقاد ابن أخت ياسر عرفات ناصر القدوة، الذي اقترب من دحلان لإجراء الانتخابات قبل المصالحة، يزيدان التخوف في أوساط عباس ومقربيه. ويقترح ممثلو دحلان، (وإن كان للبروتوكول فقط؛ لعلمهم المسبق أنهم لن يستجابوا) أن يتنافسوا في قائمة فتح مشتركة ويحذرون من انقسام يؤدي إلى إبعاد الحركة عن مكانتها التاريخية.
وللرد على كل تطور محتمل، اتخذ عباس قبل بضعة أيام من نشر مرسوم الانتخابات، خطوتين بعيدتي الأثر: الأولى هي الإصلاح الذي أجراه في جهاز القضاء، وأعلن في إطاره عن إقامة محكمة إدارية مستقلة أخضعها له مباشرة. الأمر الذي يسمح له ظاهراً باتخاذ جملة واسعة من الأعمال بما فيها حل البرلمان، وتأجيل الانتخابات بل وبإلغائها، ثم فرض قيوداً على موظفي الدولة المعنيين بأن ينتخبوا.
الخطوة الثانية هي تغيير القانون الذي يقول إن هذه ليست انتخابات للسلطة الفلسطينية بل لدولة فلسطين. أي للرئيس وللمجلس التشريعي في دولة فلسطين، كما ألغى الاشتراط الذي تقرر في قانون 2007 بعد انتصار حماس في 2006 والذي على كل مرشح للانتخابات بموجبه أن يقبل بالالتزامات التي اتخذتها م.ت.ف على عاتقها. الخطوة الأولى تثير غضباً شديداً من جانب رجال قانون وأصحاب رأي فلسطينيين بسبب المس بالمحاكم والصلاحيات الكثيرة التي أخذها عباس لنفسه. أما الثانية، التي معناها العملي انتهاء مفعول اتفاقات أوسلو وإعطاء خيار لطرح ترشيحات للمنظمات التي لا تعترف بـ م.ت.ف، وتعارض سياستها وترفض وجود إسرائيل، فإنها لم تبعث على ردود فعل حقيقية.
وبالتالي، يثور السؤال حول نوايا عباس: ما الذي يحركه، في سنه الكبيرة، أن يجري عشية الانتخابات إصلاحاً على هذا القدر من الأهمية في جهاز القضاء وتغيير قانون الانتخابات على نحو قد يورطه مع إدارة بايدن، فيما أن قرار إجراء الانتخابات يستهدف عملياً إرضاءها؟ لماذا ضاقت عليه السبل ليجري انتخابات بعد تأجيلات لكل محاولات المصالحة الفصائلية في السنوات الأخيرة؟ أفلا يخشى آثار الانشقاق والانقسام في صفوف “فتح” نفسها؟
يكمن الجواب في شكل سلوكه في الفترة الأخيرة، كملك كلي القدرة؛ فعلى المستوى السياسي نفذ ظاهراً خطوتين متضاربتين: من جهة استأنف التنسيق الأمني مع إسرائيل وأعرب عن استعداد علني للعودة إلى مفاوضات سياسية في إطار دولي دون استبعاد الولايات المتحدة كوسيط حصري (مثلما في فترة الرئيس ترامب)، ومن جهة أخرى استأنف عملية المصالحة مع حماس، لدرجة الإعلان عن انتخابات. غير أن مسيرة سياسية مع إسرائيل لن تستأنف دون إزالة المطالب الثلاثة التي طرحتها الرباعية على حماس كشرط لمشاركتها في المفاوضات (الاعتراف بإسرائيل، وهجر الإرهاب، واحترام الاتفاقات التي وقعتها م.ت.ف). حماس ترفض هذه الشروط حتى الآن، وليس واضحاً كيف سينجح عباس في تجنيد شرعية دولية لحكومة مشتركة مع حماس، وأن يضمن التعاون مع إسرائيل واستئناف المسيرة السياسية.
في ضوء هذه المصاعب والعوائق، فهل يمكن الافتراض بأن يكون مرسوم إجراء الانتخابات عملية مناورة سياسية؟ هل يحتمل أن عباس وقيادة “فتح” يقدران بأنهما سيتمكنان من إقناع إدارة بايدن وأوروبا، بينما يستندان إلى عدائهم المشترك تجاه إدارة ترامب، لمنح شرعية لإدماج حماس في الحكم؟ أم أنها محاولة لصد الضغط الداخلي والخارجي لإجراء انتخابات ديمقراطية، والإيضاح للأمريكيين والأوروبيين بأن انتخابات حرة تستوجب مشاركة حماس. بل ويحتمل أن تكون هذه محاولة للتقرب من الولايات المتحدة وأوروبا لخلق ضغط على إسرائيل للموافقة على استئناف المسيرة السياسية في شروط مريحة أكثر للفلسطينيين – إمكانية مفضلة بالنسبة للخطر الكامن في مشاركة حماس في الانتخابات.
يحاول عباس المناورة بين هذه الأمور، ومن غير المستبعد أنه اختار نشر مرسوم الانتخابات كي يحرك مسيرة، لن تؤدي بالضرورة إلى إجرائها. وبعد أن تنازلت حماس عن مطلب إجراء الانتخابات لكل المؤسسات في موعد واحد، لم يتبقَ لعباس غير نشر مرسوم الانتخابات، وذلك بعد أن حول إلى يديه معظم الصلاحيات التي تعطيه السيطرة في الساحة الفلسطينية قبل معارك الانتخابات وبينها وبعدها. قد يقدر بأن الخطوات التي اتخذها لإفشال خطة ترامب، ستسمح له بإعادة بناء منظومة العلاقات مع الولايات المتحدة وربما حتى إلى تحقيق خطوات سياسية تكون متطابقة مع استراتيجية بايدن، وأن يضمن أيضاً مكانة “فتح” والعمل المنتظم للأجهزة التي بنيت في 15 سنة لحكمه. صحيح أنه لم ينسب أحد لعباس مزايا المغامر مقارنة بسلفه ياسر عرفات، ولكن يبدو أنه يشعر في أواخر أيامه بثقة تكفي لاتخاذ قرارات في ظروف من انعدام اليقين رغم المخاطر التي تنطوي على ذلك. ويحتمل أنه يلاحظ بعض التنازل في موقف حماس بعد موقفه من خطة ترامب، ويلاحظ اهتمامها بالانخراط في الساحة السياسية الفلسطينية، وسعيها للمصالحة الفصائلية، بل وتمتنع عن المهاجمة الفظة والعلنية لاستئناف التنسيق مع إسرائيل.
على أي حال، إذا كان عباس يفضل بالفعل الامتناع عن الانتخابات، رغم نشر المرسوم، فإن تفضيله ينسجم مع تفضيل إسرائيل بعدم إجرائها. إذ إن من شأنها أن تنتهي بفشل عباس نفسه وبفشل “فتح” أيضاً. فرغم مصاعب حماس، فإنها في موقف انطلاق أفضل من “فتح”. والمس باستقرار السلطة الفلسطينية وتهديد بقائها ونزول عباس عن المنصة، كل هذا لا يخدم المصلحة الأمنية الإسرائيلية. ومع ذلك، فإن على إسرائيل ألا تظهر كمن تمس بإجراءات ديمقراطية في الساحة الفلسطينية. وبالتوازي، عليها أن تبرز في القنوات الأمنية وكذا في قنوات التنسيق مع الإدارة الأمريكية ومع فرنسا وألمانيا اللتين تتمتعان بتأثير ما على عباس، وكذا مع الدول العربية ذات الصلة، مع التشديد على مصر والأردن، نوايا عباس – إلى أين سيقود الساحة الفلسطينية. هل انتهى بالفعل عصر أوسلو في نظره، أم هي محاولة لإعادة المسألة الفلسطينية إلى جدول الأعمال الدولي أم كلاهما معاً؟ مهما يكن من أمر، فخيراً تفعل إسرائيل إذا ما رسمت أفقاً جديداً وباعثاً على الأمل فيه ما يعزز مكانة السلطة الفلسطينية من خلال استئناف المسيرة السياسية، بتنسيق وثيق مع الإدارة الأمريكية وشركائها الإقليميين، والعمل على تحسين الاقتصاد في الساحة الفلسطينية من خلال ضمه إلى الإطار الاقتصادي لاتفاقات إبراهيم. وفي الوقت نفسه، عليها أن تحرص على فرض القانون والنظام في مناطق الضفة الغربية لتقليص التوتر بين سكان المنطقة الإسرائيليين والفلسطينيين.