تستذكر إسرائيل في هذه الأيام حرب الخليج الأولى، عام 1991، وسقوط عشرات الصواريخ العراقية في مدنها الكبرى، بينها تل أبيب وحيفا. في حينه، تعهد رئيس الحكومة الإسرائيلية، يتسحاق شمير، لإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، بطلب من الأخير، بألا ترد إسرائيل بمهاجمة العراق، التي كانت في بداية حرب تواجه فيها تحالف دولي بقيادة أميركية، في أعقاب إقدام نظام صدام حسين على احتلال العراق، في آب/أغسطس العام 1990.
في حينه، ليس فقط أن إسرائيل لم تكن معتادة على سقوط صواريخ في قلب مدنها، وإنما الغالبية العظمى من سكانها حُبست داخل الغرف الآمنة للاحتماء من "صواريخ صدام"، وتم طلاء نوافذ البيوت باللون الأزرق ووضعت الأشرطة اللاصقة عليها،، كما تم توزيع كمامات واقية من أسلحة كيميائية على السكان. وكشف محلل الشؤون الاستخباراتية في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، رونين بيرغمان، اليوم الجمعة، عن تفاصيل عملية عسكرية، خطط لها الجيش الإسرائيلي، قبل أشهر من هذه الحرب، وتعرف باسم "ملابس رياضية"، وتهدف إلى تدمير منصات إطلاق صواريخ "سكاد" العراقية، وكانت بين الأسباب التي دفعت شمير إلى التعهد بعدم مهاجمة العراق.
وفي إطار بدء الاستعداد لتنفيذ العملية العسكرية، تجمع مئات الضباط والجنود الإسرائيليين، في 19 كاننون الثاني/يناير العام 1991، في عدد من قواعد سلاح الجو وفي قاعدة وحدة كوماندوز النخبة "سرية هيئة الأركان العامة"، وبينهم ضباط وجنود وحدة الكوماندوز هذه، إلى جانب ضباط وجنود من وحدة "شَلداغ" والفرقة العسكرية 98، الذي تدرب أفرادها على "القتال خلف خطوط العدو". وكتب بيرغمان أن "قرب كل مجموعة كهذه، وقف أسطول من مروحيات الشحن ونقل الجند من طراز ’يسعور’، وكان يتم إدخال عتاد عسكري فيها: سيارات عسكرية، أسلحة ثقيلة ووسائل أخرى".
توزيع الكمامات الواقية من سلاح كيميائي (أ.ب.)
وكانت خطة عملية "ملابس رياضية" تقضي بأن تبدأ العملية العسكرية بغارات جوية إسرائيلية في العراق لقصف مناطق معروف أنه تتواجد فيها منصات إطلاق الصواريخ. وفي موازاة ذلك، يتم استخدام أسلحة إلكترونية، وتحت غطائها ينطلق "قطار جوي" من إسرائيل إلى مناطق في العراق، من أجل نقل 1200 – 1500 جندي، طعام، سلاح، سيارات، معدات اتصال وما إلى ذلك. وفي مرحلة لاحقة، تعين على القوات الإسرائيلية إعداد مدرجات لهبوط طائرات شحن عملاقة من طراز "هيركوليس"، حاملة المزيد من العتاد التي يفترض أن تساعد في تدمير منصات الصواريخ.
وحسب الخطة العسكرية، تعين على القوات الإسرائيلية بعد وصولها إلى الأراضي العراقية أن تتفرق إلى مجموعات تكون كل واحدة منها مسؤولة عن منطقة، وأن تقوم بدوريات ليلية، وعندما ترصد منصة صواريخ، تعطي إشارة بالليزر لكي تقصفها الطائرات، وإن لم يكن هذا ممكنا يتعين على القوات الميدانية تدميرها بنفسها. وتعين على القوات الإسرائيلية أن تختبئ في ساعات النهار. وكانت الخطة تقضي ببقاء القوات في مناطقها لثلاثة أو أربعة أيام، ثم يتم استبدالها بقوات أخرى، وكل ذلك في الصحراء وخلال الحرب.
وقال ضابط سابق في الفرقة العسكرية 98 في التقرير الصحفي إنه بُذلت جهود واستثمر المال في إعداد خطة "ملابس رياضية". وأضاف "لم نوفر شيئا، وبضمن ذلك بناء منصات صواريخ وهمية من الكرتون، وعدد لا نهائي من ساعات محركات سلاح الجو. واليوم الأخير للتدريبات حضره شمير وأرنس" أي وزير الأمن في حينه، موشيه أرنس.
بين تأييد ومعارضة العملية
حول الخطة العسكرية ننفسها، قال الضابط إنه "اعتقدت أنها شيئا عند الحدود بين انعدام المسؤولية والخيال المطلق. وبدا هذا أشبه بما يفعله الجيش كي يقولوا إن لديه قدرات وينفذ، وليس مثل عملي عسكرية حقيقية بالإمكان الانطلاق إليها مع احتمالات نجاح منطقية ومخاطرة معقولة". ويذكر أنه بعد ذلك بعدة سنوات، خلال ولاية إيهود باراك كرئيس لأركان الجيش، قُتل عدد من جنود الكوماندوز الإسرائيليين خلال تدريب في قاعدة "تسيئيليم" على التسلل إلى العراق واغتيال صدام.
وفيما يتعلق بـ"ملابس رياضية"، ذكر بيرغمان أن المستوى السياسي الإسرائيلي "شعروا بعدم راحة حيال هذه المغامرة، خاصة في الوقت الذي تطلب فيها الولايات المتحدة، حليفة إسرائيل الكبرى، مرارا وتكرارا بعدم الرد".
وقال باراك، الذي كان نائبا لرئيس أركان الجيش حينذاك، إن "جميع المسؤولين الأميركيين، بدءا من بوش، قالوا لنا في كل مرة إنهم يطلبون ألا نعمل، لأن هذا سيؤدي إلى تفكك التحالف الدولي".
من جهة ثانية، رصدت إسرائيل تحليق طائرات عراقية عند الحدود بين إسرائيل والأردن، فيما الاعتقاد في إسرائيل هو أن هدفها التصوير، كما ساد التخوف من أن "تنتحر" إحدى هذه الطائرات العراقية على مفاعل ديمونا النووي. وقال باراك إن "طائرات سلاح الجو كانت تنطلق باتجاه الطائرات العراقية، تحسبا من إقدام إحداها على غارة انتحارية على المفاعل".
إثر ذلك، التقى شمير مع الملك حسين في لندن، وطلب منه منع تحليق الطائرات العراقية في الأجواء الأردنية. ووافق الملك الأردني على الطلب، لكنه أبلغ شمير بأنه ليس مسؤولا عن الهجمات "من خارج الغلاف الجوي" في إشارة إلى الصواريخ العراقية. كما رفض الملك طلب شمير بدخول الطيران الحربي الإسرائيلي إلى الأجواء الأردنية في حال شن غارات في العراق. والأردن لم يكن ضمن التحالف الدولي في هذه الحرب، خلافا لمعظم الدول العربية.
وخلال عودته إلى إسرائيل، قال شمير إنه "لن تكون حرب معهم". وفسر باراك ذلك بأنه "ربما حصل شمير على تعهد من حسين بأنه لن يعمل، أو أنه اختمر في قلبه القرار منذ ذلك الحين بأن إسرائيل لن تعمل بسبب المخاطر".
إلا أن عسكريين إسرائيليين كانوا متأكدين من نجاح عملية "ملابس رياضية". وقال ضابط في كوماندوز النخبة كان ينبغي أن يشارك بالعملية في التقرير، إنه "واضح أننا كنا سننجح في هذه المهمة. ورغم النقص الكبير في المعلومات الاستخباراتية، المسافة، البرد، كنا متأكدين من أننا قادرون على تنفيذ المهمة. واعتقدنا، هل يوجد أمر لا نستطيع تنفيذه؟ عليكم إنزالنا في الميدان وحسب، وسنجد المنصات وندمرها. وهذا مؤكد".
كذلك كان أرنس مقتنعا بنجاح هذه العملية العسكرية. فقد أبلغه قائد عملية "ملابس رياضية"، اللواء نحيميا تماري، ورئيس أركان الجيش،، دان شومرون، بآخر الاستعدادات. وبعد سنوات، أفاد أرنس بأنه سأل تماري حول احتمالات نجاح العملية، وأجاب الأخير أن "الأمور ستكون جيدة، وأشعر جيدا مع التخطيط".
سلاح كيميائي
بعد ذلك بعث أرنس رسال عبر الهاتف المشفر إلى البنتاغون، كي تصل إلى وزير الدفاع الأميركي، ديك تشيني، وقال فيها إن إسرائيل توشك على مهاجمة العراق في ظهيرة اليوم التالي، وطلب التنسيق بين سلاحي الجو الأميركي والإسرائيلي. وفي الليلة التي سبقت انطلاق عملية "ملابس رياضية"، عقدت الحكومة الإسرائيلية اجتماعا للمصادقة عليها، وكان معظم الوزراء يؤيدونها، لكن شمير قرر إلغاء هذه العملية العسكرية.
وبين أسباب ذلك، تبين أن إسرائيل تفتقر لكثير من المعلومات الاستخباراتية حول العراق، بعدما اطمأنت أن صدام لن يفعل شيئا في أعقاب تدمير المفاعل النووي العراقي، قبل ذلك بعشر سنوات، وتوقعت أنه لن يطور سلاحا كيميائيا قبل العام 1995، لكن تبين أن بحوزته سلاحا كهذا في العام 1991، وفقا لمعلومات وصلت إسرائيل من الـCIA. وكان التخوف في إسرائيل من استخدام صدام السلاح الكيميائي ضدها.
إلى جانب ذلك، قال تقرير لفريق من الخبراء النفسيين، شكله الجيش الإسرائيلي من أجل تحليل شخصية صدام، إن "صدام لا يرتدع من الحرب،ن حتى لو كانت ضد قوى قوية. بل على العكس، قد يعتبر حربا ضد قوى قوية أنها إثبات على أهمية وقوة العراق... وهو لا ينسى ولا يغفر أبدا لمن استهدفه. ومن هذه الناحية، تعرض صدام لضربة شديدة،، شخصية وقومية،، بتدمير المفاعل العراقي". وبعد ذلك، أدركوا في الجيش الإسرائيلي أنه "ليس بالإمكان الهبوط في منطقة صحراوية مكشوفة ومساحتها آلاف الكيلومترات مربعة ومن دون معرفة ماذا يحدث هناك".
وحول موقف شمير، قال وزير القضاء في حينه، دان مريدور، المقرب جدا من شمير: "بدا أن هذا قرار مناقض للطبيعة التي نسبوها لشمير،، كمقاتل في الليحي (المنظمة الصهيونية الإرهابية التي نشطن قبل تأسيس إسرائيل)، وخلافا للروح الإسرائيلية بأنه إذا هاجموك، لن تجلس كبطة في المهداف. لكن شمير أدرك أن أن هذه الحرب مختلفة جوهريا عما كان حتى الآن. وهذه ليست اليهود ضد العرب وفي نهاية الأمر جاء الأميركيون والعالم من أجل ترتيب الأمور. يحارب هنا الأميركيون ضد العرب، ونحن على جنب، وصدام بالذات يريد أن نتدخل في الحرب".
إثر ذلك، نفذت وحدة كوماندوز النخبة البريطانية SIS عملية مشابهة لـ"ملابس رياضية"، وكانت نتيجتها أنه لم يتم تدمير منصة إطلاق صواريخ عراقية واحدة، وإنما قُتل 11 جنديا بريطانيا، بينهم جنود تجمدوا حتى الموت بسبب البرد.
وقال ضابط الكوماندوز الإسرائيلي الذي تحدث سابقا عن احتمالات نجاح العملية، إنه "عندما وصلتنا التقارير عما حدث للجنود البريطانيين، وشاهدنا صورهم وهم عالقون في تيارات المياه مع سياراتهم في البرد الشديد، أدركت كم نحن محظوظون. وهذه أعجوبة أننا لم نذهب إلى هناك. فقد كان هذا بدون هدف. واحتمال العثور على منصات الصواريخ قياسا بالمخاطر كان غير معقول أبدا".