ملاحظات على هامش الانتخابات الاسرائيلة 2021: بقلم الدكتورة هنيدة غانم مديرة المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"
اجرى حزب ميرتس الذي يعد اكثر حزب يساري صهيوني في مروحة الاحزاب الاسرائيلية الصهيونية، في بداية كانون الاول من 2020، استفتاءً داخليا بين صفوف مصوتيه.
هدف الاستفتاء فحص مدى قبول فكرة تحول ميرتس من حزب يهودي فيه عادة مقعد لعربي واحد، الى حزب يهودي عربي.
جاء ذلك بعد ان شارف الحزب على الانهيار وصارت فرص عبوره نسبة الحسم في دائرة المجازفة.
حظيت الفكرة بقبول 0,7% من مصوتي ما يسمى "يسار وسط" ممن يشكلون عادة قاعدة ميرتس الانتخابية، وسقطت سقوطًا مدويًا ومثيرًا للسخرية، اذ اظهرت عمق الفجوة بين صورة الحزب التي يحاول ترويجها كحزب ديمقراطي يرفع راية المساواة والسلام، عاليًا، وبين حقيقة ان مصوتيه غير مستعدين فعليًا قبول فكرة المساواة.
الاستفتاء أوضح لكل ان مصوتي ميرتس على قلتهم يريدونه حزبًا يهوديًا وصهيونيًا قبل كل شيء، وأن خطاب التسامح والسلام الذي يلوحون به منطلق من مصلحة ذاتية قومية تتمحور حول القبيلة اليهودية، اعطى هذا الاستفتاء فرصة لفهم طبيعة المساواة والسلام التي يريدها الحزب من جهة، وشروط المشاركة السياسية التي على العربي ان يخضع لها ليكون جزءً من اللعبة الديمقراطية من جهة اخرى، أي: ان يكون فردا وليس جماعة، شرط طبعا ان يمثل الجماعة، بمعنى ان يكون او تكون واحداً وحيدا يمثل جماعة يراد منها ان تكون مخزونا انتخابيا، هذا الواحد دوره وظيفي تحليل (من حلال) ميرتس كحزب متسامح، يأكل ما تطعمه له ميرتس عن الديمقراطية ويغض الطرف عن صهيونيتها، التي تشكل فكرة الدولة اليهودية عامودها وثقلها ومرساتها.
لكن ميرتس التي يرفض 99.3% من قاعدة منتخبيها فكرة المساواة والشراكة اصلا، لن تعدم عربًا يقبلون شروطها ويصوتون لها، وستجد بلا شك المثقف الدوري الذي يقبل ان يكون "چوي شبات" Goy shabat لديمقراطيتها البائسة.
المسألة لا تتعلق بفرد او شخص، نموذج المثقف الذي يلعب دور چوي شبات، هو نموذج يعبر عن حالة سيكو-اجتماعية افرزتها التحولات التي مر بها الفلسطينيون في الداخل، وهو يمثل شريحة جديدة من الطبقة الوسطى التي شقت نجاحها وبنت سيرتها الخاصة في منعطفات المجتمع الاسرائيلي وطرقه، واخذت منه ادوات عملها والاهم صورتها في مرآته. هذه الشريحة نتاج تقاطع عدة عوامل ساذكر منها اثنين اولا التعليم في الاكاديميا الاسرائيلية، وهيكلة مسيرتها المهنية وفق متطلبات السوق الاسرائيلية وشروطها وثانيا بتوفر مسارات معينة تتيح وتشجع النجاح الفردي للعربي وفق شروط تتحدد بطبيعتها وطابعها.
المؤسسة الاكاديمية الاسرائيلية من جهة والوزارات من جهة أخرى تخصص ميزانيات لدعم العرب، واستيعابهم في وظائف ومهن معينة، هيئة التعليم العالي لديها منح مخصصة لدعم الطلاب العرب، الجامعات لديها منح مخصصة للباحثات العربيات ومنها فقط للمرأة البدوية واخرى للشركسية الخ، كذلك الامر في بعض المراكز البحثية، هناك ايضا برامج لاستيعاب الاكاديميين العرب في الهيئات التدريسية في الجامعات (النسبة طبعا لا تتعدى 1.5%)، في بعض المسارات العربي الذي يثبت جدارته العلمية وتفانيه يمكن ان يكون مدير مستشفى، او عميد في كلية في جامعة محترمة او نائب رئيس جامعة، وان ينتدب ليشارك بمشاريع ضخمة حتى في العالم (كلها حالات حقيقية).
لا يعني هذا ان المنح سيئة ولا ان من يأخذها يقع في الفخ اطلاقا لكن فقط اصف خلفية تشكل طبقة وسطى.
افرزت مساحات النجاح والتعليم هذه سيكولوجية خاصة يرى فيها الشخص الناجح بان الفرص مفتوحة امامه وانه اذا ما جد وثابر وجد. لكن النجاح الشخصي في مسارات المؤسسة ليس مقطوعًا عن سياقه بل ابنه الشرعي والمدلل .
وفي حالة الفلسطيني يرتبط بحالة مزدوجة وسريالية ينجح العربي ويصعد في سلم بعض الوظائف لانه عربي، ولكن عليه ان يتصرف كعربي من نوع خاص. لنأخذ حالة قصوى ان اختيار عربي ليكون سفير اسرائيل في الهوناولو يتم لانه عربي، لكن وجوده في منصبه هذا الذي يدين به لعروبته يشترط ان يحولها الى سمة ليست ذا صلة من خلال تفريغها تماما من اي بعد قومي او سياسي.
لنأخذ مثالا اقل قسوة وتطرفا، لعربي تدرج في المناصب حتى اصبح رئيس مستشفى اسرائيلي مشهور، هذا نجاح باهر على المستوى الشخصي، يحتاج صونه الى جهد ربما الى تحييد كامل للهوية القومية، الى درجة ان يفرض هذا الرئيس على الاطباء العرب ان لا يتكلموا بالعربية بل فقط بالعبرية، الهوية ومشتقاتها تترك في البيت. في العمل انت كائن حيادي. لنذكر هنا مثلا البروفسور الناجح وهو يوقد شعلة الاستقلال والطبيب الاستثنائي الاهم الذي اشعلها قبله، وصاحبة شركة الاعلان التي اشعلتها بعده، والامر ينسحب طبعا على مجالات اخرى من فن وغناء واعلام، وحتى على عاملين في بعض مؤسسات المجتمع المدني ممن يشكلون اليوم بطانة الطبقة الوسطى وقشرتها الثقافية، ممن تخمرت تجربتهم في المؤسسة الاسرائيلية وذوتوا شروط نجاحهم وفق محدداتها، هذه الطبقة اصبحت تلعب اليوم دورا في بلورة الخطاب العام المرتبط بالتقدم وفي وضع لبنات النموذج المثالي للنجاح.
في الخمسينيات والستينيات كان المثقف الفلسطيني في الداخل يلعب دورا طليعيا ثوريا، ينتج سردية تخاطب ابن المخيمات في لبنان كما تخاطب ابن الجليل وغزة ونابلس، كانت فلسطين المقسمة وحدة في مخيال المثقف، كان محمود درويش وراشد حسين وتوفيق زياد وصبري جريس وسميح القاسم وغيرهم يقودون بناء الهوية الفلسطينية، وينحتون رموزها ويضعون الايثوس الجمعي لها. لم يسأل هؤلاء من هو الفلسطيني ولا حتى استخدموا المفردة كانوا فقط يستنطقوه ويشكلوه.
الجامعات الاسرائيلية فتحت ابوابها للعرب وزادت نسبتهم في السبعينيات، لكنهم لم يذوبوا بل وضعوا اسس الحركة الطلابية واقاموا من خلالها الاحزاب والحركات، لكن على الهوامش بدأت تنمو ظواهر جديدة للنجاح الفردي وللانشغال بالشخصي والنفور من الخطاب القومي، هذه الهوامش توسعت بموازاة توسع هوامش استيعاب العرب في المؤسسات الحكومية والشركات، مقابلها كان من ينشط في الاحزاب والحركات كالحزب الشيوعي وابناء البلد يمنع من التوظيف، ويفصل من التعليم ويحاصر في لقمة عيشه، ومع طفرة التطور الاقتصادي النيوليبرلي، التي قفزت في بداية التسعينات وبداية الالفية الثانية ومع ما رافقها من انتفاضة ثانية، وتقلص مستمر في الامل وحلم التحرر بدأت الهوامش التي نتجت وتخمرت في الاكاديميا الاسرائيلية وتبنت خط المهادنة تنمو وتكبر، ليس فقط عبر نجاحها الشخصي بل عبر تحولها لنموذج بديل عن النموذج القومي الذي يرفع شعار الحقوق القومية وعبر التماهي مع خطاب المؤسسة ان هذا النموذج متطرف وغوغائي ولا يخدم مصالح شعبه بل يلعب فقط لعبة كراسي سواء كانت هذه المرسي طبعا في الكنيست او في الحامعة او الشارع هذا.
والان نحن امام حالة جديدة، ضاقت فيها مساحة العدالة والمساواة الجمعية واقر قانون القومية ليتوج الفوقية اليهودية (او بالاحرى يحوصلها) وتوسع بالمقابل هامش الاندماج الفردي لمثقفي الطبقة الوسطى، والمشروط بتقليص الهوية القومية او اعادة نزع دسمها في صيغة تمثل مشروع سلاتم وتعايش مثالي بين العربي- المواطن الجيد والدولة او بالاحرى بين العربسرائيلي الجديد، المتعلم الناجح مهنيا، الذي يرى نجاحه دليلا على ان من جد وجد وان الافكار عن السياسة والمطالب القومية مجرد تهويش غوغائي.
هذا العربسرائيلي، في افضل حالاته يطالب بتوسيع الهوامش (او لا حسب مساره)، في الاكاديميا يرى نفسه بانه عربي عبقري، وفي السياسة برچماتمي محنك.
ولانه خلطة استثنائية من النجاح الفردي والبرچماتية يمكن له ان يكون مرنا يستوعب كل التنقضات، ان يكون عربي فخور ووطني مميز ومحب لشعبه وعضو حزب صهيوني او متحالف مع الليكود او اي شيء فقط ماء محايد، لا تناقضات بين الادوار طالما كان مرنًا بما فيه الكفاية ليكون چوي شبات بما يرضي الله!
ولنا لقاء مع تعيين وزير عربي مسلم برسم نتنياهو ... فإلى الملتقى