يجب أن يطلق علينا اسم «جيل انتفاضة الحجارة»، فنحن أبناء فلسطين الذين كنا نعيش سني مراهقتنا الغريرة حينما اندلعت شرارة الثورة الفلسطينية من مخيم جباليا، وأنت في هذه اللحظة وجدت كل تصوراتك عن الثورة والثوار ومعركتك العادلة لتحرير الوطن قد أصبحت مترجمة، قد أصبحت على أرض الواقع، ففجأة اشتعلت الشوارع نارا والنار يا صاحبي حين تشتعل فهي لا تنطفئ بسهولة، فلا شيء يبقى بعد إشعالها كما كان، مهما حاولت أن تطفئها، فالنار قد اشتعلت وأشعلت وهذا يكفي لحدوث تغيرات كبيرة في المكان.
والمكان هو روحك وقلبك، فجأة تتحول إلى ثائر، فجأة تنقلب من أغنيات عبد الحليم لباحث عن أغنيات الثورة مع الكهرباء الاستاتيكية التي تثير عواطفك اكثر فهناك ضعف في إرسال المحطات الإذاعية التي تذيع أغاني الثورة وتلهب حماس الثوار، وتشجع المواطنين العاديين على الصمود.
حول الموقد في البيت القديم كان الجد «خليل» يتحدث برهبة عن «الانتفاظة» هكذا كان يلفظ مسماها، وكنت تسعد كلما كرره أمامك، وكلما مرت الأيام كان يشعر أن هذه المرة ليست مثل سابقاتها، وأن هؤلاء الأطفال الذين لا يملكون غير الحجارة والإطارات المشتعلة سوف يفعلون شيئا، لن يتخاذلوا ويتمنى الا يخذلوا، وظل يتابع الأخبار يوما بيوم، وفي كل مرة وهو يسمع أعداد الجرحى والشهداء يردد «هاذي الانتفاظة نفظت الناس».
ذكريات سنوات الانتفاضة التي «نفظت» الناس انتشرت وانتعشت، ونهضت من مضاجع الذاكرة واسترخت على مواقع التواصل الاجتماعي، وسعدت بالذكريات التي عشتها، وعرفت أبناء جيلي من ذكرياتهم، أفصح الأصدقاء الافتراضيون عن أعمارهم الحقيقية التي لم اكن اعرفها، وكنت اخمنها وهم يتحدثون عن تلك الأيام، الغريب والعجيب اننا جميعا كنا نتحدث عن ذكريات مشتركة لها طابع واحد موحد، كنا نتحدث عن أبناء فلسطين، وقيادة فلسطين الموحدة، وكنا نتكلم مقابل ذلك عن عدو واحد كان وما زال، ولكننا لم نحافظ على فلسطين واحدة، وكنا نأمل أن يحدث ذلك ويبقى، ولكن ذلك لم يبق إلا في ذكرياتنا التي تداعت، وحين خرجت بعض الصور القديمة وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي.
لفتني بنات جيلي وكنا نتشابه في ذلك الوقت من أواخر الثمانينيات، بنفس قصة الشعر التي تكون منكوشة من الأمام، ومسبلة من الأطراف والخلف، ونفس اللباس وهو البنطلونات الضيقة او التي تضيق حين تصبح من الساق حتى اسفل، وراجت موضة الأحذية الرياضية بأربطة ملونة وقتها، ولا تنس الإكسسوارات التي كان تحلي معاصمنا، ومنها ما يمثل خيوطا بألوان العلم، وربما أهداها حبيب لحبيبة أو العكس، ولكن كان هناك قاسم مشترك وهو ان بنت غزة مثل بنت رام الله، ومثل بنت نابلس ولا شيء يميزهن عن بعضهن البعض، وكلهن يخرجن في الصفوف الأولى مع الشباب أولاد الحارة لرشق الجنود بالحجارة.
في مخيم جباليا، سطرت اروع القصص البطولية أيام الانتفاضة، وسمعنا قصصا طريفة ونادرة، وتعجبنا من مقدرة هذا الشعب على الصمود وتقديم الأبناء فداء للوطن والصمود على أيام الجوع والتجويع بفرض نظام منع التجول لأيام طويلة تصل إلى أسابيع، ولم يكن الناس وقتها يتهافتون إلا على شراء أكياس الطحين، وغير ذلك يعتبر ترفا، وكانت الحياة بسيطة وبساطتها في تشابه البيوت والقلوب، فتغنى العالم كله بأطفال الحجارة الذين جاؤوا كالبشارة.
حفظنا التاريخ جيدا، وفي كل شهر كنا نحتفل بمرور شهر من الصمود واصبح يوم الثامن من ديسمبر كل شهر هو يوم الصمود بالفعل لأن الجميع قد راهن على انطفاء جذوة الانتفاضة، ولكن مرور كل شهر عليها كان مدعاة لأن نحتفل، ولأن يعلن الإضراب العام في شتى أنحاء فلسطين، وتتوقف حركة الحياة العامة في ذلك اليوم الذي لا ينسى، والذي ظل محفورا في ذاكرتنا حتى اليوم.
في تلك الأيام كانت تسمى فلسطين، وها قد نال العمر منا واجتمعنا مع ذكرياتنا لنقول للجميع، إننا أبناء الانتفاضة، أبناء المخيم وبناته، وان ذاكرتنا التي تنسى مواعيد الدواء وأماكن الأشياء لا تنسى ولا تخطئ أول شرارة، أول نداء بمكبر صوت، أول عينين جريئتين خلف لثام بالكوفية لوجه اسمر بديع، وجه فتى من مخيم الثورة، مخيم ما زال يحكي حكاية فلسطين.