اتفاقات السلام والتطبيع مع الإمارات والبحرين فصلت القضية الفلسطينية عن قضية التطبيع بين إسرائيل ودول المنطقة. وصل الفلسطينيون إلى نقطة تدهور أخرى في تاريخهم. القاسم المشترك بين هذه النقاط هو عدم قدرتهم على إدارة حوار واقعي مع الواقع، والتشبث برؤى متطرفة. هكذا كان رفضهم لقرار التقسيم في العام 1947، ورفض معايير الرئيس كلينتون (2000)، والأسوأ منها جميعاً قرار تكرار ما حدث في العام 1948 وشن نضال عنيف انتهى بإسدال الستار على حلم “الدولتين”.
كان في إسرائيل من غضب من دفع المسألة الفلسطينية إلى الهامش في أعقاب اتفاقات التطبيع الأخيرة. فقد تم الادعاء بأن القضية الفلسطينية هي القلب النابض للنزاع، وتأثيرها على إسرائيل أكبر بما لا يقاس من العلاقات مع السودان أو دول الخليج. تاريخياً، هذا الادعاء صحيح بشكل جزئي؛ فالنزاع مع الفلسطينيين جرى في الحقيقة في ساحة إسرائيل الخلفية، لكنه لم يكن تهديداً وجودياً على الدولة مثل النزاع مع دول المنطقة.
العبرة التي يجب تعلمها من التاريخ هي بخصوص الطبيعة المختلفة للنزاع مع الفلسطينيين، الذي في أساسه يوجد الخلاف على قطعة الأرض نفسها مع كل ما يترتب على ذلك. إن عملية أوسلو، التي ارتكزت على افتراض موافقة الفلسطينيين على التنازل عن تطلعهم إلى “الوطن” التاريخي الأكبر والاكتفاء بـ “دولة صغيرة”، قد لاقت فشلاً ذريعاً، وهذا ليس غريباً، حيث يتعلق الأمر بمواجهة لا يمكن أن نطبق عليها نموذج المصالح الذي يحدد اتفاقات التطبيع مع دول المنطقة.
ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن الانقلاب الذي يحدث على مكانة إسرائيل الإقليمية تجعل من الممكن تجاهل القضية الفلسطينية. ما زال التحدي الفلسطيني قائماً، ليس رؤية متطرفة تسعى إلى إخماد مطلق لبؤر الصراع العرقي – القومي، بل السعي إلى إدارة النزاع كظاهرة مزمنة، من أجل تقليص قوة ضرره على إسرائيل. وحتى إذا لم يشكل الفلسطينيون تهديداً وجودياً لإسرائيل، فإن عنف المقاومة الفلسطينية وإرهابها رافق الدولة وكان يشكل تشويشاً على الحياة فيها.
في العقد الأخير، وفي إطار نموذج إدارة الصراع، تعاملت إسرائيل بشكل جيد مع الإمكانية الكامنة في الضرر الفلسطيني من خلال رؤية عملية جديدة – قديمة تتمثل بـ “التعاون بين الأعداء”، والتي في إطارها مكنت إسرائيل الفلسطينيين في يهودا والسامرة من إدارة حكم ذاتي مستقل، مقابل تعاون أمني. ورافق ذلك جهود لتعزيز الاستقرار عن طريق تحسين مستوى حياة الفلسطينيين، الذي استند إلى زيادة فرص عملهم في إسرائيل.
تم تحقيق الواقع الأمني الهادئ نسبياً بفضل سياسة إدارة النزاع، والتحدي الذي تواجهه إسرائيل الآن، بالذات على خلفية ضعف الفلسطينيين الاستراتيجي الذي من غير المتوقع أن يتغير حتى في عهد جو بايدن، بزيادة تطوير القدرة العملية لهذه الرؤية من أجل ضمان شروط تمنع الفلسطينيين من أن يتحولوا مرة أخرى إلى قوة مشوشة تضر بعملية التغيير التاريخية في مكانة إسرائيل في المنطقة.
تحتاج إسرائيل في الواقع الحالي إلى عمليتين: الأولى، أن تخفف التباين الذي أظهرته القيادة الفلسطينية في السنة الماضية، مثلاً على خلفية الأزمة المالية، فيما يتعلق بالمجالات المدنية – الاقتصادية للسلطة الفلسطينية، ويجب فعل هذا بواسطة استغلال تغيير الإدارات في الولايات المتحدة الذي جعل الفلسطينيين يستأنفون التنسيق الأمني. والثانية هي توسيع ترسانة الأدوات الاقتصادية التي تسمح بملء الفجوة التي ستنشأ بين أمنيات الفلسطينيين والواقع، عن طريق تحسين مستوى الحياة.
يتعلق الأمر بتطوير رؤيا “سلام اقتصادي”، زرع أساسها في العقد الماضي، لكن مطلوب الآن تطويرها من خلال عملية مهمة لتوحيد الاقتصاد الإسرائيلي والفلسطيني مع الحفاظ على فصل عرقي وأمني واجتماعي. المغزى العملي لهذه العملية هو استثمار إسرائيلي متواصل في مجالات غير مرتبطة فقط بالدفع قدماً بالتشغيل الفلسطيني في إسرائيل، بل أيضاً بتطوير بنى تحتية على شتى أنواعها، والاستثمار في مشاريع تدفع قدماً بتحسين جودة البيئة والقيام بمبادرات ستسمح بتطبيع حياة الفلسطينيين في كل ما يتعلق بالحركة وكسب الرزق والرفاه.
هذه الخطوة ستربط مجدداً بين القضية الفلسطينية والقضية العربية، لكن من موقف مختلف – من موقف يرى احتمالية لاستغلال التطبيع الاقتصادي بين إسرائيل ودول المنطقة، الذي تمت صياغة مبادئه في “صفقة القرن”. هكذا، في ظل التعاون الإقليمي الآخذ في التبلور، سيكون بالإمكان تجنيد ما هو ضروري لعملية توحيد الاقتصادين. يدور الحديث عن نموذج يتساوق مع اللغة الاستراتيجية التي تتحدث بها العناصر الأكثر واقعية في المنطقة في القرن الحادي والعشرين. وبالتالي، تكون لديه القدرة على تزويد نموذج إدارة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بأدوات ذات صلة لضمان الاستقرار في يهودا والسامرة وربما في قطاع غزة.