2020-12-01
لطالما عالجت الرواية الإيرانية موضوعة القمع، والتعذيب، والسجون، بطرائق عدّة، وعلى مدار عقود أو يزيد، إلا أن الحكاية التي ذهب إليها الروائي كيهان خانجاني في روايته "قسم المحكومين"، وصدرت حديثاً عن دار الرافدين للنشر والتوزيع ومنشورات تكوين، كانت مغايرة بلا شك، حيث تم الزج بفتاة إلى سجن "لاكان" للرجال، ويضم مئتين وخمسين سجيناً يتوزعون على خمس وعشرين غرفة، لليلة واحدة، لكنها كألف ليلة وليلة، ومن وحيها، إلا أن هذه الفتاة، ورغم أنها لم تكن شهرزاد هنا، كانت المحفز لخمسة عشر من المحكومين المتورطين بالمخدرات (اللوازم) تعاطياً وتجارة، لاستحضار النساء من حيواتهم في الماضي، وتلصصهم ما بين واقع وتخيّل أو غباش، على حاضر مؤنث أو مؤثث بالتفاصيل.
"زاباتا" هنا تلبس ثياب شهرزاد؛ ليقص أكثر من خمس عشرة حكاية عن خمسة عشر سجيناً، يبدأها بالحديث عن نفسه كواحد من سكان "لاكان" بزنازينه المتعددة، أو بمعنى أدق عن الأنثى التي تسكنه، كما غيره، وكأنه داعك الفانوس الذي يخرج من قمقم السجين أنثاه أو نساءه اللواتي يسكنّه، ما بين حبيبة، أو زوجة، أو شقيقة، أو أم، أو ابنة، أو ابنتين، أو حتى "بنت الجيران"، فكانت النساء فاتحة الحكايات كلها، وكأنهن شهرزادات استعان بهنّ لقص حكاياته هذه، بما فيها حكاية "اللجوج" الذي لم يكن يحبّ الجنس اللطيف.
واتكأ الروائي أو "زاباتا" هنا على الفتاة الحاضرة الغائبة، كممر للعبور إلى دواخل المحكومين وعرض شخصياتهم وحكاياتهم ما بين زمنين أولهما التعاطي مع صدمة الحضور المفاجئ لها، وثانيهما استعاديّ لما كانوا عليه ما قبل "لاكان".. "في إحدى الليالي، فتح رجل باب قسم المحكومين، ثم ألقى في داخله بفتاة"، ليُدخل القارئ في حالة من الترقب للحظة السطو من أحدهم على الجسد المسجى.
"عين على النافذة، عين على الستارة، والآن سيأتي صوت ضاج ليقلب الدنيا"، وسيخرون "إلى الممر، وستكسر مؤخرات قناني المُربّى، وتقوم القيامة. لماذا وقع حفنة من الناس لا مكابح تكبحهم مع بعضهم؟.. كنت أكرر في عمق رأسي أن صباح هذه الليلة غير آتٍ، لن يبزغ الصبح دون دماء. تُطلَق صرخةٌ في الممّر فألتفتُ لها. هذا هو المتاع، كيفما أردتَ أن تكون فأنت كائن.. لو كنت تضحك، سترمي أمعاءك. لو كنت خائفاً، تخاف من ريحك حين ترى سيارات الشرطة، ولكن تلك الليلة كانت ليلة خوف. وكأنهم سيقطعون الرقاب في صباحها".
وحيث كان التلصص سيد الموقف، اكتفى "آزمان" بأخذ قياسات الفتاة بدقة، هي التي لم تكن تتحرك منذ "استقبالها وعملية البصمات والتصوير، وتفتيش سبعة إلى ثمانية ثقوب، واستلام الثياب والنقود منها، واستلامها النعال، والانتقال إلى المدخل، ثم الوقوف أمام غرفته"، في حين أن "العم الوزير" ألقى نظرة فتراجع الجميع، وهنا "انفتحت الدائرة"، قبل أن يطغى صوت "العم" مجدداً، وباستهجان، بأن "اخلوا المكان لأرى ما يحدث. كانت هناك فيما مضى قاعدة لكل شيء. لماذا تُدخلون بنت الناس هنا؟، وهل هذا المكان غرفة للزيارات؟"، أما "سيا سيا سيا" (الأسود بالفارسية) فمدّ رأسه من الزاوية "من بين الرؤوس والأكتاف"، ليرى باب الغرفة، في إشارة إلى تجمهر جموع المساجين حول فضولهم، قبل أن يصف السجن هذا في مدينة "رشت" بـ"بيت مجانين"، بحيث كان "يفتح الطريق، ويلعن الأرض والزمن"، حتى نجح أخيراً في رؤية "شعرها المقصوص بالآلة الكهربائية".
السجين المكنى بـ"نفس واحد" كان يسترق النظر مع الآخرين فحسب، بينما "جلست هي بين سريرين، مقرفصة، يداها على ركبتيها، رأسها ليس موجهاً للأعلى ولا للأسفل"، أما "الأفغاني" الذي ابتلع ست حبّات من "الأفيون"، ورغم أن عينيه وقعتا على الفتاة، فقد ظن أن الأمر لا يعدو كونه حلماً، وأنه لم يستيقظ بعد، في حين أن "جناب الخان" لم ينظر إلى الفتاة، لكونه كان يعرف كلّ ما يدور في الممر الضيّق، على عكس "الغاز" الذي "سقط أرضاً وغطّاه التراب"، وألقى نظرة على الممر، متسائلاً: هل هي فتاة؟!
أما "زاباتا" نفسه، فكان قد رفع رجليه، ليلقي نظرة أخرى على الفتاة، للتأكد مما "إذا كانت هي تجربتها الأولى في السجن، فهي بالتأكيد ستعرف أن السجن لا يعرف معنى لكلمتي (بابي) و(مامي)".
الشهرزاديات كنّ هن مفتتح الحكايات كلها، فحبّ "زاباتا" فتاة من قريباته، بينما كانت جارة "آزمان" هي من تملكت قلبه، في حين كان البون شاسعاً ما بين "اللجوج" والنساء عامة، فيما كانت بوصلة قلب "العم الوزير" تشير دوماً إلى ابنتيه، هو الذي لطالما كان يردد "لا حبّ مثل حبّ الأب لابنته. كانتا هما من تحمّل كل هذه السنوات عناء زياراته، والتبضع له، وإحضار لوازمه".
وكانت تلك "الممرضة الكردية" شغف "سيا سيا سيا"، هي التي كانت تعمل في المستشفى المتعاقد مع السجن، بينما كانت "ابنة أكبر رجال الحارة وأكثرهم مقاماً" هي حبّ "نفس واحد" المُعدم، في حين كان للفتاة "كلخمار" حضورها الكليّ الساطي على "الأفغاني"، هي التي اختُلف على كونها إيرانية أو أفغانية أو طاجيكية، أما "الحاجة"، أي أم "جناب الخان"، فكانت سيّدته الأولى التي لو "مُنعت عن زيارته لحوّل القسم إلى صحراء الحشر"، بينما كان "الثعلب" يعشق "امرأته الغريبة" مع أنهما لا يعرفان لغة بعضهما البعض، وكذلك حال "المقامر" الذي كانت تأسره "زوجته الجنوبية الأصلية"، كما حال "الدرويش" أيضاً.
واتجه قلب "ملك الأنوف" إلى "أرملة من صحراء وسط البلاد، كانت تصرّ عليه كي يُجري عملية تجميل لأنفه"، أما "البطل" فكان عشقه أقرب إلى الأساطير، وعلى تماس مع كل مكوّنات النوستالجيا تجاه أم لم يرَها قط، وفي إطار النوستالجيا نجد أن "الرفيق المهندس" كان هائماً وراء ذكرياته وأخته التي "لم تعد موجودة، ويقال إنه سجن إثر مقتلها"، بينما كان "الغاز" متيّماً بفتاة "فائقة الجمال، هي وريثة لثروة ولعائلة من الأعيان".
ويتضح جلياً أن خانجاني سعى في "قسم المحكومين" إلى أنسنة المساجين عبر استحضار إناثهم، أو الجزء الليّن في دواخلهم، أو من خلال استنطاق تفاعلاتهم الخارجية والداخلية إزاء "اقتحام" فتاة بشكل مفاجئ وطارئ ليومياتهم الرتيبة، ولليلة فحسب، في رواية انتظر صاحبها عشر سنوات كي يجد الفرصة لطباعتها، ولم ينقضِ عام حتى وصلت إلى طبعتها السادسة، قبل منعها عقب طبعتها الحادية عشرة، وهي الرواية التي كسرت، وفق مترجمها إلى العربية أحمد حيدري، صمتاً تخوّف منه الكثيرون، ويتعلق بـ"عار الكتابة عن الصعلكة المحاصرة والمتروكة لمصيرها بعد أن تخلى عنها المجتمع".
والرواية التي يغلّفها خيال خصب، وجد مبرره في تداعيات التعاطي وهذيان المتعاطين، لا تتبرع بإدانة المساجين في "رشت"، وهي ليست مرافعة عنهم، بقدر كونها إضاءة على تهميشهم وإقصائهم عن إنسانيتهم الطاغية، في سجن تراقب فيه الكاميرات المعلقة على الأعمدة في الممر الجميع، ليُدخلنا "زاباتا" إلى الغرفة رقم (3) ذات الأسرّة الستة، حيث كان "آزمان" برفقة شاعره ومغنّيه "الدرويش" مسؤول مخزنه، أي المخبأ الذي يخبئ فيه السجناء مخدّراتهم، ومنفذ طلباته "ملك الأنوف"، مع متأبط الشر ومسؤول المشتريات "اللجوج"، والمشرفَيْن على نقل الأخبار "الغاز" و"نفس واحد"، فهما حاضران في كل وقت، وفي كل مكان، بينما كان "جناب الخان" في غرفة (7) ذات الأسرة التسعة، والتي دخلناها رفقة الراوي أيضاً، لنجد فيها "العم الوزير"، و"سيا سيا سيا"، و"الأفغاني"، و"البطل"، و"الرفيق المهندس"، و"المقامر" الذي كان ينام كلّ الوقت على أرضية الممر، ومعهم "زاباتا"، ونحن أيضاً، نقلب الصفحات بين حكاياتهم جميعاً، ونرسم لكلّ منهم في أذهاننا صورة مفصّلة برع في رسمها خانجاني بالكلمات، بحثاً عن حقيقة الفتاة التي بقيت حكايتها "بيضاء".