واسفاه ..ما اشد.. ما يقترب فن الكوميديا في اتجاهه، من مضمون التراجيديا "عطيل"
بدون كتاب الفكاهة لكانت الحياة – بالقطع – اكثر قتامة.
"عزيز نسين" أو محمد نصرت نسين ، حسب اسمه الأصلي (1915 -1995 ) او كما يلقبه البعض "تشيخوف الأدب التركي" رائد الكوميديا الساخرة في الأدب التُركي؛ روايته مضحكة إلى حد الدموع، ساخرة إلى درجة المرارة ، ناقدة في الجوهر وملتزمة بقضايا الناس البسطاء والمقهورين ، وبمزيج من اللغة الساخرة والرمزية والإسقاط السياسي، استخدام الرمز والاشارة بعبقرية. وينظر المهتمين بالأدب، اليه بوصفه كاتبا بالغ الاهمية ومؤلفاته تمثل الذروة الشاملة في الكاتبة الادبية الساخرة والفكاهة الشعبية؛ وتقديمه خلاصة موجزة لمجتمعه.. فالسخرية والتهكم - الفرق بينهما مرده إلى طبائع النفوس، فمن الناس من يسخر من آلامه ليهون حملها عليه، فهي حالة نفسية هادئة أميل إلى الطبع الفلسفي، منها إلى طبع الشعراء. وأما التهكم فيصدر عن النفوس العنيفة التي لا ترحم حمق الغير أو جهله فتتهكم منه، فالسخرية أغلب ما تكون من النفس وإليها وإن امتدت إلى الغير ففي رفق، بينما التهكم سلاح قوي ضد الآخرين.
كل هذه الطرق ، مختلفة للعبارة عن مكنون نفوسنا، الذي لا نريد العبارة عنه عبارة مباشرة، فمن الكُتَّاب أمثال موليير من يضحك من الناس ليقوِّم من اعوجاجهم، ومنهم أمثال شارلي شابلن ممن يضحكنا ليثير شجوننا ورفقنا بضعفاء الناس، ثم ثورتنا على الظالمين منهم، وهناك من أمثال فيجارو الذي يضحك انتقامًا لنفسه وخوفًا من أن يبكي من محنته، ومنهم، ضحكه نقد اجتماعي مُرٌّ لظواهر لا يعرف لها علاجًا.
قدما "عزيز نسين" سياق من الفكاهة والكوميديا السوداء ، لكن مع مزيد من نشر اعماله وافكاره و مفاهيمه، اصبح من الكتاب المهمين وتزايدت شهرته، الى ان اصبح من الأدباء الجديرين بالاعتبار ؛ وموضوع الكتابة الساخرة والضحك والثقافة الشعبية، قد مثلت في كتابات "نسيين " لحظة فريدة اخترقت خلالها الفكاهة الموجودة والمتطورة منذ قرون، على المستوي الشعبي ، في ميدان الادب الساخر، وتيار الرواية التقليدية، واستطاع بأعماله الهامة وبأسلوبه الساخر توظيف إمكانياته وقدراته الأدبية ببراعة لخدمة أحداث الرواية ، سرد سلس ولغة واضحة ؛ استطاع تقديمها في إطار اجتماعي ساخر، من داخل المجتمع .
بالتأليف الادبي او الخطاب الثقافي؛ الذي يقوم على اساس الانتقاد للرذائل والحماقات والنقائض الانسانية، الفردية منها والجمعية؛ كما لو كانت عملية الرصد، او المراقبة لها ، تجري هنا من خلال وسائل واساليب خاصة في التهكم عليها ، او التقليل من قدرها ، او جعلها مثيرة للضحك بهدف النقد ، او غير ذلك من الاساليب التي يكون الهدف من ورائها التخلص من بعض الخصال والخصائص السلبية ، وغالبا ما تتضمن حكما اخلاقيا وهدفا تصحيحيا.
بعض اعماله الرائعة سردا نثريا، يصف من خلاله شخصيات روايته وأحداثها من خلال قصة متسلسلة، وقد اختار لقصته مذهب الرواية النقدي بالتحديد من بين المذاهب الأدبية المختلفة لأنها تعد أكبر الأجناس القصصية من حيث الحجم ؛ وتعدد الشخصيات، وتنوع الأحداث مما يساعده في سرد فكرته ، في مساحة أدبية كبيرة، لا تتقيد بشروط القصص القصيرة. وتتماشي مع الحوار والطبيعة الاساسية للعقل الانساني. وقد راي الكثير من المفكرين ؛انه عقل حواري وما النتاجات الابداعية لهذا العقل بأشكالها كافة ، الا تمثيلا للخطاب الحواري الذي يقدمه الكاتب المبدع في حواراته الساخرة ، و فى جوهر يقوم على الحوار ، و الثقافة الادبية الراقية ، ايضا نوع من الضحك الساخر بهدف تقديم النقد التصحيحي وهو الذي انشغل به "نسين" , وعبر عنه في الكثير من كتاباته كما انه تمثل بعض احجار البناء الاساسية في عالم الكتابة والتأليف الفكاهي؛ ولكن هذا التعريف لا يكفي للإحاطة بكل اعماله وخاصة انه متعلق بإسهامه المميز ، حتى وصل بهذا الاسلوب الى قمته. ويتجلى هذا النوع على نحو واضح في اعمال كبار كتاب الادب الساخر.
وتحتاج كتابة الفكاهة القيام بعمليات تفكير - تقوم على اساس الخيال احيانا ، وعلى اساس التجرد احيانا اخرى ، وتحتاج الى التواصل والتفاعل ، واللعب على البدائل والمفارقات ، والوعي الذاتي، وكذلك استخدام طرائق متناقضة او متضادة في رؤية الاشياء؛ وهناك حاجة الى القدرة ايضا على التخمين و التوقع، وكذلك استخدام طرائق في اثناء عملية من التفكير ،وكلها قدرات يجدها النقاد بعيدة تماما عن - غير الكاتب المبدع ، فالفكاهة صمام امان للتعبير عن الافكار، وتصريف بعض الطاقات السلبية في المجتمعات، من خلال الفكاهة الطريفة ، التي تنتقد بعض المؤسسات الاجتماعية والسياسية ، وبعض الشخصيات والسلوكيات؛ كذلك بهدف خفض التوتر ، او تصحيح بعض الاوضاع الخاطئة.
يقول عزيز نسين (وحتى حينما عرفت ككاتب ساخر، لم أكن أعرف معنى هذا الأدب الذي تعلمته من خلال كتابته. غالبا ما أسأل ما هي أسس الأدب الساخر؟ كأن الأمر يتعلق بوصفة أو معادلة. كل ما يمكنني قوله إن الأدب الساخر هو عمل جاد للغاية).