تكلمنا، قبل أسبوع، عن مشهد إمبراطوري في البار ونستفيض، اليوم، في الكلام عن عناصره النصية والبصرية.
يفتتح بن يميني مقالته بمفاجأة تقض سكينة الإسرائيلي الجالس في البار الإماراتي: يرى امرأتين تتوشّحان بالسواد من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين، وتبرق عيناهما من فتحة صغيرة في ما يشبه النقاب. يقول في سرّه: «يا للهول، هذا ما ينقصنا».
ويُفسر ردّة فعله بالقول إنه كان في انتظار لقاء مع «أكاديميين وطلاّب»، واعتقد أن المرأتين تنتميان إلى جماعة إسلامية متطرّفة، وقد جاءتا لإفساد اللقاء.
كل مطّلع على «آداب» الكولونيالية، في زمن الفتوحات الإمبراطوري يعرف توجّس الأوروبي الأبيض في اللحظة الفاصلة ما بين وقوع العين على الأصلاني، الهندي، الأفريقي، البدوي (كائناً ما كان) وابتسامة الثاني التي تذيب الجليد، أو مد يده للمصافحة، أو قبول هدية من القماش أو الزجاج (وفي أميركا الشمالية الويسكي والبطانيات الملوّثة بالطاعون). ثمة لحظة حرجة، غامضة، ومسكونة بالخطر.
ولسبب سنفسّره، كان في افتعال مفاجأة أحدثها مشهد المرأتين في البار ما يُمكّن مسكوتاً عنه في المشهد البصري من التدليل على حضوره بطريقة غير متوقّعة تماماً. فلنضع هذا المفتاح الدلالي جانباً لبرهة من الوقت، وننتقل من النصي إلى البصري، أي إلى الصورة التي أرفقها بمقالته، ويبدو فيها منشكحاً (كما نقول بالعاميّة) أو casual «على الآخر».
يجلس بثياب «كاجوال كمان»، كنزة مفتوحة العنق، وعلى اللحم على الأرجح، يسند، وقد ضم ذراعيه إلى صدره، ظهره إلى أريكة ويضع على ركبتيه وسادة صغيرة، وتتدلى من أذنيه، وعلى صدره، كوابل سماعات لسماع الموسيقى، وبالقرب منه تجلس إماراتية شابة، ترتدي عباءة، ولكن من النوع الذي يسمح لخصل الشعر الأمامية بالظهور، ولا أثر لنقاب أو فتحات صغيرة أو كبيرة، تميل بالنصف الأعلى من جسدها في اتجاهه، وترسم شيئاً ما بيديها في الهواء.
بمعنى أكثر مباشرة. كان المكوّن النصي في المشهد الإمبراطوري في البار مفتعلاً إلى حد بعيد، ولا ينجو من احتمال التلفيق. ومع ذلك يعمّق الأخ يميني وقع المفاجأة بالقول إنه تردد في مد يده بالسلام لبرهة من الوقت، بعدما مدّت المرأة يدها بالسلام، ولكن سرعان ما ذاب الثلج بعدما خاطبته لبنى، التي اتضح أنها مصرفية، وخريجة كامبردج، بإنكليزية راقية، وقدّمت زميلتها نورا، التي تعمل مهندسة كهربائية.
مرّة أخرى، لا قيمة لهذه الاستراتيجيات النصية، والبصرية، بالنسبة لشخص لم يطلع على «آداب» الإمبراطورية، وعلى لحظة اللقاء الأولى بالسكّان المحليين في خطاب الكولونيالية.
فاكتشاف أن لبنى (هانم، الإضافة من جانبي، طبعاً، ففي المشهد ما يُحرّض على قدر محسوب من «الزعرنة» الدلالية، على الأقل) تتكلّم إنكليزية راقية، بل وتشتغل مصرفية، أيضاً، وتخرّجت في كامبردج، يعيد إلى الأذهان الحضور المُعقّد، الإشكالي، والمُلتبس، لفكرة «المتوحّش النبيل»، والتي غالباً ما تتموضع في سياق سوء فهم، فتوتر، وشكوك متبادلة، ثم نظرة، فابتسامة، وكلام. يا سلام.
وأعتقد، وهذه مجازفة يمكن الدفاع عنها، أن الخطابين النصي والبصري، بكل ما فيهما من حمولة أيديولوجية وإمبراطورية (من سوء حظ الأخ يميني نعتقد أنها مفتعلة)، ومن دلالات كالفاكهة التي فلقها النضج، لن يكونا مفهومين، تماماً، دون الوقوف عند صاحب النص، أصله وفصله، لعل فيهما ما يمكّن من إلقاء ضوء ما على زوايا مُعتمة.
الأخ يميني من أصول يمنية. لذا، في الكلام عن «الصدمة» أو «المفاجأة» من مشهد المرأة الأصلانية بالثياب المحلية، ما يثير قدراً مُبرراً من الارتياب. فثياب النساء التقليدية جزء من ميراث اليهود اليمنيين، وربما كانت الزي المألوف «للوالدة» أو «الجدة».
وقصة هؤلاء مع الصهيونية، و»هجرتهم» إلى فلسطين «لو كتبت بالإبر على آماق البصر، لكانت عبرة لمن اعتبر».
وفيها، بقدر ما يتعلّق الأمر بالطريقة التي عوملوا بها على يد الأشكناز البيض من بناة الدولة الإسرائيلية ما يستحق أن يُقال:
ففي العقد الثاني من القرن الماضي جابه المستوطنون الأوائل مشكلة في اليد العاملة.
لم يحتمل يهود أوروبا الشرقية والوسطى العمل في الحقول، وحر الصيّف في فلسطين، ما يعني أن فكرة العمل العبري كانت مهددة في المهد.
لم يكن يهود البلدان العربية، في تلك الأيام في «بال» آباء المشروع الصهيوني، ولكن الحاجة ليد عاملة يهودية أقنعت بيرل كاتسنلسون، أحد قادة العماليين الصهاينة، والرجل الثاني بعد بن غوريون في زعامة الييشوف اليهودي في فلسطين، بضرورة استدراج يهود اليمن، أو أكبر عدد منهم.
كان رأي كاتسنلسون أن اليهود اليمنيين يشبهون العرب، ويمكن أن يعملوا في الحقول، وأن يتحمّلوا حر الصيف، أما النساء فيمكن الاستفادة منهن، وتشغيلهن كخادمات.
ولتحقيق هذا الغرض، أرخى أحد نشطاء العماليين الصهاينة في ذلك الوقت، ويدعى يفنئيلي، السوالف، وتقمّص شخصية حاخام (كان علمانياً ومُلحداً في الواقع) وسافر إلى اليمن لإقناع اليهود، هناك، بضرورة الإسراع «بالعودة إلى أرض الميعاد لأن نهاية الأيام، وعودة المُخلّص، اقتربت».
وهذا ما كان، سافرت عشرات العائلات في ذلك الوقت. ولا نعرف إذا ما كان الأخ يميني من سلالة هؤلاء أم من سلالة القادمين في موجات لاحقة كان آخرها «بساط الريح».
ويبقى أن الأخ يميني يحمل إلى جانب يمنيته، بمعنى السيرة العائلية، والجينية، بمعنى السحنة الأقرب إلى العرب، نوعاً ما، حمولة لغوية، أيضاً، فبن درور يميني تعني ابن الدوري (العصفور) ويميني تحيل إلى اليمن.
يعني صاحب المشهد الإمبراطوري المُفتعل مُثقل بحمولة يصعب تجاهلها، أو إخفاء ملامحها. ولكن لماذا كل هذا؟. فاصل ونواصل.