على مائدة اللئام ،،، محمد سالم

الأربعاء 25 نوفمبر 2020 02:04 م / بتوقيت القدس +2GMT
على مائدة اللئام ،،، محمد سالم



"ليسا اكثر من لصين يقتسمان الاسلاب.. ولذلك راي ان يبدا بإزاحة اصغر اللصين.. الكل يعرف انه شريك اصيل في كل ما ارتكبه من جرائم وكوارث"
وإذا أردت تثبيت الكرسي؟ عليك اختيار أعوان أكفاء.
دعوة إلى مائدة التاريخ ليس فقط لكي تزداد المعرفة ، بل لفهم لحظات الحاضر على ضوء أحداث الماضي، تعال نسترجع المشهد.. التاريخي ؛ من خلال ، كتاب للمؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي ، يعبر مؤرخنا اصدق تعبير ، بكلمات تركت بصماتها على العقل العربي. وتشكك  الشعوب في الافكار والوعود التي يذيعها اصحاب المصالح وذوي السلطة و السطوة وأشباه  الحكام ؛ وقد سجل مؤرخنا ، ايام الهزيمة في هذا التقرير الموجز عن.. كذاب الزفة فقال:
قبيل مجيئ الحملة الفرنسية، كانت مصر تخضع لسيطرة زعيمين من شيوخ المنسر، عكفا على مص دماء الناس ، قطرة بعد قطرة حتى جفت عروقهم وذوي عودهم ، وانهد حيلهم ، وخربت ديارهم . وكان الناس يتحملون هذا البلاء بحجة ان هؤلاء  يحملون عنهم عبء القضية ! والدفاع عنها ، ويذودون عن حياض الوطن ، ويردون عنه كيد المغيرين .. الى اخر هذه الحجج الواهية التي يشيعها المؤرخين، لتبرير عجز البعض وسكوتهم عن الضيم.. والضم والذل. والتطبيع والعبودية.

كان هذان المملوكان الغاصبان- ابراهيم بك ومراد بك – يتمتعان بكمية هائلة من السفالة وقلة الحياء، فهما أسدان جسوران على الشعب، المغلوب على امره، ولا يتورعان عن حرق القري ، وتدمير المزروعات ، وسفك الدماء ، وتشريد الناس من اجل حفنة ريالات .. ولكنهما كانا أرنبين هزيلين في الساحة. امام بعض الدول ، فما يبدا وطيس القتال ، حتى يطلقا سيقانهما للريح ، تاركين الشعب اعزل، كالأيتام على مائدة اللئام ، فاذا زال الخطر، وانقشع العدو ، عاد  ليستأنفوا مظلمهم وانقسامهم وجبروتهم ، بعد أن يقسموا بأغلظ الايمان أنهم لن يعودوا سيرتهم الاولي.. والمؤسف أن الشعب كان يصدقهم ، فيسلموا اليهم رقابهم مرة اخرى !!! "لو أدبه الشعب حين كذب كذبته الأولى لما عاد إلى الكذب مرة أخرى".

كان ابراهيم بك أكثرهم دهاء ومكر، لذلك لم يورط نفسه في معركة غير محسوبة . أما مراد بك فكان كما وصفه الجبرتي" يغلب علي طبعه الخوف والجبن ، مع التهور والطيش في الاقدم مع عدم الشجاعة ، ولم يعهد عنه أنه انتصر في حرب باشرها ابدا ، على ما فيه من الادعاء والغرور والكبر والخيلاء والصلف والظلم والجور" بمعني  لا حرب ميدانية ولا حرب دبلوماسية .

ولقد دلت جميع الاحداث ، على ان هذا الامير المتسلط ، كان مغرورا الى حد البلاهة .. (همباكا) الى درجة العبط .. (جعجاعا) في تقدير بطولته وقدرته على سحق الالوف بضربة من سيفه . فاذا حانت ساعة الجد ، واستشعر العين الحمراء في خصمه، ولي مدبرا ولم يعقب، ولا يكف عن الجري حتى يطمئن على انه لا يزال حيا ، ولذلك تشاءم الناس، عندما علموا أنه يتصدى لملاقة جيش نابليون أثناء زحفه على القاهرة قادما من الاسكندرية ، لآنهم كانوا يعرفون أن هذا ( كذاب زفة ، ولن يصمد طويلا في المعركة ، وكان مراد بك قد صرح قبل خروجه الى المعمعة بأن الاعداء مثل حبات الفستق .. لا يصلحون الا للكسر والاكل. وصدق الناس في حدثهم .. وكانت معركة امبابة مهزلة انكسرت لها نفوسهم .

وتقدم طابور الفرنسيين لقتال مراد بك ، فقد انقسم على كيفية معلومات عندهم في الحرب ، وتقارب من المتاريس بحيث صار محيطا بالعسكر وأرسل بنادقه المتتالية والمدافع واشتد هبوب الريح ، وانعقد الغبار ، واظلمت الدنيا من دخان البارود  وغبار الريح ، وصمت الاسماع من توالى الضرب ، واستمر القتال ساعات ، ثم كانت الهزيمة لمراد بك ، فغرق الكثير من الخيالة في النيل ، والبعض وقع اسيرا في أيدي الفرنسيين ، وملكوا المتاريس ، وفر مراد بك ومن معه الى الجيزة ، فصعد الى قصره ، ثم ركب وذهب الى الجهة القبلية ( الصعيد) وبقيت القتلى والثياب والاسلحة ملقاة على ارض امبابة وتحت الارجل.."

هذا هو كذاب الزفة الذي فر بينما كان يمارس دور الغضنفر على الشعب المغلوب على امره ، تلك طبيعة الطغاة الذين يستخفون بالشعوب ولا يدركون الحقيقة الابعد ان تدمر الاوطان ويزول عنهم السلطان ويموت الناس كمدا.

لم يكن عبد الرحمن الجبرتى مؤرخا حكوميا ، يكتب ما يرضى الحاكم ، ولكنه كان مؤرخا شعبيا من الطراز الاول ، يسجل ما يراه في أمانة ودقة ، دون ابتغاء مرضاة السلطة أوخوفا من سخطها ، او قطع الراتب، وربط الرتبة.. ومثل هذا المسلك الاخلاقى ، لم يكن مما يعجب الحكام  لان الحاكم يريد من المؤرخين المعاصرين له ، ان يحرقوا له البخور وينتحلوا البطولات ، و الانتصارات.. ويزيفوا الحقائق فيجعلوا من مخازيه مجدا ، ومن سوءاته عزا .
وهو في كل هذه التقلبات يري الحال تسير من سيئ الى اسوا ، فيتمثل قول الشاعر:   رب يوم بكيت منه ، فلما     صرت في غيره ، بكيت عليه.