تخبرنا العلوم الحديثة في التواصل، بأن القردة، مثلاً، تتّصل غرائزيّاً عبر 15 صرخة ثابتة مختلفة مصحوبة بالإشارات، لكنّها ارتفعت إلى 20 بزيادة 5 صرخات أقوى بعدما تم وضعها في الأقفاص في جنائن الحيوانات. أتذكّر نظرية داروين في النشوء والارتقاء لا لتبرير ما أعالجه، بل للتفسير. وبالمقابل، انحصر قاموس اتّصالات الدجاج في 10 أصوات انخفضت إلى 7 بعدما حصرت في الأقفاص المخنوقة.
وتتواصل النحلات العاملات غرائزيّاً في 8 رقصات بأجنحتها فتحدث أصواتاً أو طنيناً يفسّر بُعدَي المسافة والاتجاه نحو الزهور المكتشَفة لامتصاص رحيقها. تتحدّد هذه المسافات، بين 100 متر و6 كم ترسمها انحناءات النحلة بزوايا تتشكّل من ظلال جناحَيها تحت أشعة الشمس أمام باب القفير. وقد لوحظ، بعد تغذية النحل بالسكّر المذاب خلخلة الغريزة إلى درجة تأرجح عدد الرقصات بين 4 و6 رقصات، ما ولّد حقلاً دراسيّاً يهتمّ بأثر التقنيّات الحديثة في تهديم الغرائز الحيوانيّة وتحوّلاتها.
لماذا هذه المقدّمات؟
لأنّه كان يمكنني التغاضي عن المستويات المتدنّية والسيئة في ظواهر «تواصل» معظم الزعماء السياسيين والحزبيين وأتباعهم القلائل في لبنان، لكن أن يتصوّر هؤلاء وكأنّهم وحدهم سكّان لبنان وحكّام أنفسهم ولا تعنيهم سوى سلطاتهم الدكتاتورية المغلّفة بغشاء ديمقراطي، فإننا شعب نتخبّط معهم في أوحال من قاذورات الحواس الفجّة وفي الوعورة المظلمة كليّاً.
هذه كارثة وطنية لا مثيل لها في العالم، لأنّ الحواس ملازمة لغرائز الكائنات غير العاقلة. الظاهرة شائعة في الإعلام كما في العلاقات العائلية والاجتماعية والمتاجر والأسواق والساحات، والانتحارات المرعبة اليوميّة لقادة السيّارات إناثاً قبل الذكور بصفتها طائرات نفّاثة. الظاهرة مكسوة بالعنف اللفظي والجسديّ والقتل والخطف والغرائز الفائرة وموت الرويّة والتعقّل، وكأنّ الانحطاط العام المخيف يدفع نحو جحيمٍ لا قرار فيه.
يعتبر الاتّصال البشري أساساً، سلسلة من حركات تسبق اللغة، لتحدّد في ما بعد تطوّر الأفراد والجماهير وردود أفعالها عن طريق الانفعالات البيولوجيّة التي «تبدأ في تحسّس الجنين مثلاً لأصوات أمّه قبل نضج قشرة دماغه»، وحيث تبرز، بعد الولادة سلسلة أخرى ممتدة من حالات التعبير اللغويّة والرموز الاصطلاحيّة والحركات القابلة للترتيب والتهذيب وبناء الشخصيّة. يندرج هذا الطرح في اعتبارنا لتنظيم الاستجابات وتهذيب المشاعر وقوننة الميول والرموز الأساسية الضروريّة من أجل الفهم والتكيّف والتعبير عن الذات لغويّاً أو جسديّاً. يُضاف إلى هذه الفكرة في فهم الانفعالية كحيّز اتصالي، اكتشاف ما يعرف علمياً بالـChronaxie وتعني الوحدة الزمنية التي تُقاس بها انفعالية كل عضو من الأنسجة الحيّة البشريّة، لكن أن تصبح الجيب هي الوطن والقمع هو الخلاص مسألة كبرى!
ما يعنيني من هذا، أنّ ملكة التعبير عن الحاجات، فالذات والفكر وتلوّنه وتطوّره نظماً تتحقق في صور ومؤسسات وأحاديث ومواقف وخطب وأفكار وأنظمة وقوانين، بصفتها وسائل لا للاحتفاظ بالنفس والثروات والنهب، بل بصفتها كفيلة بنهضة الناس والمجتمعات والأوطان.
كلّ هذا غائب نهائيّاً في لبنان ممحي بوحشيّات تتجاوز فجاجة الغرائز والحواس الجامحة.
هناك شراسة نافرة غير مسبوقة، ونتائج طبيعية لقمع الأصوات والثورات واحتقار التغيير والزمن، واحتقارات رسمية لانفجارات المرفأ، والأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية، ولامبالاة وحشيّة راقصة أمام المعوزين والجياع، وفجائع «كورونا» والتباعد الاجتماعي والسقوط المتواصل في أحضان الموت، إلى الحدّ الذي أصبحت فيه الحيوات حاجات عدائية غريبة عمياء يتمّ إشباعها بالغرائز والمخالب والأنياب الجارحة والاعتداءات والمحاكمات والتوقيفات، والاعتداءات المحصّنة بالمناصب العفنة، والتلطي بمؤامرات رجال الأحزاب والطوائف أو بطواعية معظم الأمن والقضاء.
ما مستقبل مسؤولٍ لا يطيق سماع كلمة مشوّكة من متسوّلٍ لكسرةً خبز أو لدواء لطفله؟
ما مستقبل طالبٍ «أعدمته» دولته في الغربة بعدما طردته جامعته لأنّه لم يسدّد قسطه والمصارف اللبنانية تحتجز أموال أهله والمودعين في لبنان. ها هم طلابنا يستعطون فوق أرصفة العواصم رغيفاً أو سيجارة. نعم.
هذه أسئلة قد أصفّ من نوعها الملايين.
هذه أول ديمقراطية مغمّسة بالدكتاتوريات في التاريخ البشري، لكنها لبنانية.
إنّ الشعب اللبناني وحتى العالمي صار قابلاً للانفجار في وجوه الطغاة بما يتجاوز تفجير نترات الأمونيوم في قلب بيروت؟