صدرت حديثاً عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار” الترجمة العربية لكتاب “إمّا نحن وإمّا هم.. معركة القسطل: الساعات الأربع والعشرون الحاسمة” للكاتب والصحافي الإسرائيلي المتخصّص في الشؤون الفلسطينية، داني روبنشتاين، وترجمه عن العبرية سليم سلامة.
ويسرد الكاتب على امتداد 400 صفحة رؤية روبنشتاين للحرب على مصير فلسطين في نهايات الانتداب البريطاني عبر استعادة سيرة القائد الشهيد عبد القادر الحسيني، والإضاءة على محطات مفصلية في حياته، وتفاصيل حراكاته الداخلية والعربية المكثفة في أبريل/ نيسان عام 1948، مركّزاً على معركة القسطل كمحطة حاسمة في مسار الحرب.
ينوه المؤلف بأنه كُتبت بشأن معارك القدس في وجه عام، وبشأن معركة القسطل بوجه خاص، عشرات بل مئات الكتب والمقالات والأبحاث، التي استخدمت – في غالبيتها الساحقة – مصادر إسرائيلية وأجنبية، بينما القليل منها فقط استند إلى مصادر عربية. ويعود ذلك، برأيه، إلى سبب بسيط جداً، هو أنه لا يتوفر الكثير من مثل هذه المصادر، وحتى إن توفرت توثيقات عن تلك الحقبة، فمن الصعب، أو المستحيل تماماً الوصول إليها في حالات كثيرة، وكذلك لدى الفلسطينيين أيضاً، فإن الأرشيفات المتوفرة قليلة جداً وغير منظمة.
وثمة مشكلات أخرى، في مقدمتها عدم معرفة العديد من الباحثين الإسرائيليين والأجانب اللغة العربية، ناهيك عن الاستخفاف الظاهر، في كثير من الأحيان، بموثوقية الوثائق العربية وصدقيتها من منطلقات شتى، وهو استخفاف راسخ لدى جلّ الباحثين الإسرائيليين لدوافع مسبقة البرمجة والأدلجة. لكن المؤلف الإسرائيلي يغفل نهب القوات الإسرائيلية التي احتلت الشطر الغربي من القدس الكثير من المكتبات والأرشيفات واستأثرت بها.
بعد هذا التنويه، يؤكد المؤلف أنه في كتابه هذا سعى للاستئناس أولاً وقبل أي شيء بالمصادر العربية، بما في ذلك مصادر عائلية بقيت خارج دائرة الاستخدام تماماً طوال أعوام عديدة. وأوضح أن ما حثّه على الاستناد إلى تلك المصادر، هو طريقة العمل التي اعتمدها دكتور شريف كناعنة، من مواليد عرابة البطوف في الجليل داخل أراضي 48، وأستاذ العلوم الإنسانية الذي كان يدرّس في جامعة بيرزيت، ودرَس ودرَّس في الولايات المتحدة لسنوات عديدة، وأثارت إعجابه، فقرّر أن يستخدمها في بحثه عن مصادر تكشف له ملابسات معركة القسطل، على ما تحفل به من أهمية بعيدة المدى.
ويتميز الكتاب الذي يستعير عنوانه من جملة أطلقها الحسيني، بقيام المؤلف بإعادة التذكير أن عام 1948 هو عام مصيريّ للغاية في تاريخ قضية فلسطين برمتها، كونه العام الذي “استطاع فيه المشروع الاستيطاني اليهودي تأسيس دولة”، بينما “حلّ بالفلسطينيين، في المقابل، دمار وطني شامل، وشخصي أيضاً في كثير من الحالات”. وهو يفعل ذلك بالأساس بوساطة التركيز على القدس ومعركة القسطل من خلال أحد أهم رموزهما في تاريخ النكبة الفلسطينية، معتبراً أنه بنظرة إلى الوراء، يمكن الجزم بأن اليوم الحاسم في معركة القسطل ومقتل الحسيني هما عصارة قصة سقوط القدس العربية، وربما بمثابة جوهر قصة النكبة الفلسطينية كلها، وأن الأحداث التاريخية أثبتت ما قاله رؤساء الجمهوريْن اليهودي والعربي معاً حيال مسألة السيطرة على القدس في عام 1948، وفحواه أن من يسيطر على القدس يسيطر على البلد (فلسطين) كله.
معركة ” مشمار هعيمق ” ومذبحة دير ياسين
يشير الكاتب مستنداً إلى خلاصات توصل إليها من إحداثيات قدّم تحليلاً لها، إلى أن جميع الذين كتبوا عن الأحداث الجسيمة التي وقعت في 1948 يعتبرون معركة القسطل نقطة تحوّل رمزية ودراماتيكية في المعارك التي اندلعت في البلد عشية انتهاء الانتداب البريطاني يوم 15 مايو/ أيار من ذلك العام. ففي اليوم الذي جرت فيه معركة القسطل (7/8 نيسان 1948) وقع حدثان آخران: مذبحة دير ياسين ومعركة “مشمار هعيمق” ( مستوطنة في مرج بن عامر داخل أراضي 48). ويعرب روبينشتاين عن اعتقاده بأن هذين الحدثين حسما مصير الحرب، حتى قبل أن تدخل الجيوش العربية إلى ساحة القتال، بعد ذلك بوقت قصير.
بين المؤرخ والصحافي
ردا على أسئلة ” القدس العربي ” يؤكد المؤرخ الفلسطيني الدكتور عادل مناع، أن الكتاب المذكور مهم، وأنه قد قرأه في طبعته العبرية فقط، موضحا أن الطبعة العبرية مكتوبة بأسلوب سلس ورشيق وروائي يلتف فيها الكاتب على الملل المحتمل المرافق لقراءة مادة التاريخ، منوها لأهمية إطلاع اليهودي المتوسط المستند إلى مصادر صهيونية، على بعض ما جاء في الرواية الفلسطينية.
ويقول إن الكاتب كتب إلى حد معين بشيء من الاتزان، وأن هناك بعض الإيجابيات في الكتاب. ويتابع مناع: “عندما تنشر مؤسسة بحثية مثل مدار، لا دار نشر تجارية أو مؤسسة صحفية، ينبغي أن تأخذ بالحسبان عدة محاذير، ولا أعلم بعد إذا ما تمت مراعاتها أم لا”. لافتا أنه لم يقرأ بعد الطبعة العربية. ويرى أنه رغم محاولة روبينشتاين لأن يكون متزنا، لكن الكتاب في نهاية المطاف تمت كتابته من وجهة نظر شخص صهيوني خدم في الجيش وشارك في حروب، وهو يتحدث عن ذلك في كتابه وتقاريره. ويتابع: “توجهاته ومصطلحاته تأتي ضمن الرواية الصهيونية، وعلى سبيل المثال، الناشطون الفلسطينيون ممن ينفذون عمليات ضد الاحتلال يسميهم (مخربين)”.
الإسرائيلي من الناحية الفعلية، بل على صحافي إسرائيلي يعرفنا على حالنا، وهو يروي عن شخص فلسطيني هام يعتبر رمزا فلسطينيا وطنيا.
ويضيف: “لذا علينا أن نكون حذرين جدا في ترجمة مثل هذا الكتاب حتى لو اعتمد على بعض المصادر الفلسطينية؛ لأننا ربما نساهم بدون قصد في تعميم رواية إسرائيلية وسردية صهيونية عن شخصية فلسطينية رمزية وبالذات تعميمها على العرب خاصة في هذه الأيام. هذا إذا كان الكتاب قد كتب كدراسة بحثية، فكم بالحري إذا كان المؤلف ليس مؤرخا، بل صحافي، وروبينشتاين كتب طيلة سنوات في صحف هآرتس ودفار، عن الصراع. ولم تكن تقاريره دائما دقيقة من الناحية التاريخية”.
كما يشير مناع إلى أن الكتاب “ليس كتابا تاريخيا بقدر ما هو أقرب للبيوغرافيا، سيرة غيرية”. ويتابع: “للأسف لم يكتب الفلسطينيون سيرا عن قيادات فلسطينية بارزة إلا الزعامات أمثال الحج أمين الحسيني أو ياسر عرفات، بينما ضاعت سير القيادات في الصف الثاني والثالث رغم أنها ضحت وقدمت. وهذا ينطبق على عبد القادر الحسيني. بالمناسبة كتب عن والده موسى كاظم الحسيني أيضا من قبل كاتب إسرائيلي محاضر في جامعة تل أبيب وهو تقريبا لم يكتب عنه الحد الأدنى من الكتابة “.
منوها أن “هناك كثرا من القيادات الفلسطينية التي لم تأخذ حقها في الذاكرة الجمعية” لافتا أنه يكتب بنفسه اليوم عن “أحمد حلمي عبد الباقي”. ويضيف: “حتى معظم المثقفين والناشطين الفلسطينيين لا يعرفونه أو يعرفون أمثاله، أو يعرفون فقط أنه رئيس حكومة عموم فلسطين وليس أكثر من ذلك”.
ويؤكد مناع أن الفلسطينيين من ناحية كتابة تاريخهم هم مقصّرون. وتابع: “نحن كسالى كما هو الحال في مجالات أخرى”. ويضيف: “الكتاب المكتوب من شخص مثل داني روبينشتاين جيد، لكنه يحتاج لتدقيق كامل”.
ويتابع مناع: “ربما يكفي بطبعته العبرية ويؤدي هدفه لدى القراء الإسرائيليين ويخدم الهدف بتعريفهم بالموقف الفلسطيني، وإلى حد معين يؤنسن الحكاية الفلسطينية وشخصياتها، لكن عند الترجمة، هناك محاذير: السردية لا تقبل كما يطرحها، وعند الترجمة لا بد من التحرير وعدم الاكتفاء بترجمة مهنية، وعلى سبيل المثال في مجال المصطلحات والتسميات، فهل تقول الترجمة (أرض إسرائيل) كما في النص العبري الأصلي، أو كيف يترجم كلمة (مخربين)؟”.
ورداً على سؤال ما إذا تم التنويه لذلك في مقدمة الطبعة العربية؟ يجيب مناع: “نعم ممكن إذا كانت المحاذير واضحة، ومع ذلك هناك حاجة لتدقيق. فهل نصحح الأخطاء بالمضامين أم نتركها؟ على سبيل المثال في مرحلة معينة يكتب روبينشتاين في الطبعة العبرية: “من بيت صفافا وشعفاط في جنوب القدس إلى بيت حنينا في الشمال” وهو بذلك يقصد شرافات لا شعفاط، فهل هذا خطأه أم هو خطأ مطبعي؟ وكيف تعاملت معه الترجمة العربية؟”.
وحول سؤال: “في المزاعم الأساسية للكتاب، وكأن حدثيْ استشهاد عبد القادر الحسيني ومعركة القسطل قد حسما المواجهة على فلسطين، هل تؤيده بذلك؟” يجيب مناع: “لا. لا أقبل مزاعم كثيرة وكأن مذبحة دير ياسين في اليوم التالي من استشهاد عبد القادر هي التي حسمت قضية فلسطين، وخسر الفلسطينيون بسببها. هذه رواية يتلقفها تنظيم “الإيتسيل”. هذا غير صحيح وربما قد روجت “الإيتسيل” ذلك؛ لأنها هي التي نفذت المذبحة وكأن الفلسطينيين هربوا بعدها”.
ويضيف: “إن اختلال ميزان القوى كان لصالح الحركة الصهيونية وكل المتعاونين معها، ولذا فإن استشهاد عبد القادر أو عدم استشهاده في ذاك اليوم، وإن احتلوا القسطل في ذاك اليوم أم لا، فإن نتيجة الحرب كانت واضحة مسبقا بسبب موازين القوى. كانت هذه منعطفا من بين عدة منعطفات. فسقوط طبريا وتهجير أهلها في 16 و 17 أبريل/ نيسان بالتعاون مع الانتداب البريطاني، ومن ثم حيفا والشمال الفلسطيني، لا تقل أهمية من استشهاد الحسيني وسقوط القسطل، وهي ليست نتيجة مباشرة لسقوط القسطل”.
مؤكدا أن هذه هي نتيجة مباشرة لقرار بن غوريون والانتداب بإبقاء الحرب “على نار خفيفة” قبيل 15 مايو/ أيار، كي لا تثور الشعوب العربية على الأنظمة، وتجبرها على التدخل ومساعدة الفلسطينيين، علما أن هذه الأنظمة لم تكن معنية بأن تحارب. منوها أن عصابة “الهاغاناه” انتقلت من الدفاع إلى الهجوم في مطلع نيسان بمنطقة القدس وفي الشمال، ولذلك برأي الدكتور مناع، لا يجوز إعطاء سقوط القسطل مفعولا حاسما إلى هذا الحد.
كذلك يتساءل مناع بالقول: “ليس هذا فحسب، فبعد 15 أيار صارت الحرب إسرائيلية- عربية، فما العلاقة إذن بين القسطل وبين ما فعلته الجيوش العربية بعد 15 أيار؟ وكيف أثرّت عليها؟”. ويمضي بالتساؤل والتوضيح: “بالعكس، فإذا كان لابد من تأثير حاسم، فلماذا نحصره في القسطل وعبد القادر الحسيني؟ ولماذا لا نتنبه لتأثير سقوط طبريا وحيفا وغيرهما، وكذلك تهجير مئات الآلاف”. منوها أن هذه الأحداث كان يفترض أن تحث الدول العربية أن تقاتل بشكل أشرس كي لا تسقط كل فلسطين وهذا ما حصل؛ لأنه منذ البداية لم تكن الأنظمة العربية جاهزة للحرب، بل إن بعض الجيوش العربية كانت متفقة مع إسرائيل مسبقا كما حصل في الضفة الغربية، حيث تم التوافق على تقاسم البلاد وفق قرار التقسيم.
من هنا يرفض المؤرخ مناع الزعم بأن القسطل وعبد القادر هما أساس الحرب في 1948 وهما سبب النكبة، وتتوجب الإشارة وكأن النكبة وقعت في الثامن من أبريل/ نيسان 1948 ويقول إن هذا من وجهة نظر تاريخية مهنية هذا “كلام فارغ ” يهدف لتسويق الكتاب ومحاولة تعظيم أهمية الكتاب، كما يجري عادة في مثل هذه الحالات في إسرائيل.
وتابع: “تكرر ذلك في كتاب المؤرخ الإسرائيلي هليل كوهين حول أحداث البراق عام 1929 وفيه زعم أنها نقطة الصفر للصراع، وكأن ما سبق هذا العام غير مهم ولا علاقة له”. وتابع: “هذه طريقة رخيصة نوعا ما لتسويق الكتاب. لو كان روبينشتاين مؤرخا وكتب مثل هذا العنوان وليس صحافيا لسأله المؤرخون بالقول: لماذا تبالغ هنا؟ ثم أن هناك حاجة لأن تثبت فرضيتك حول الأهمية الحاسمة لمعركة القسطل”.
في مجال الحديث عن ضرورة الدقة التاريخية يوضح مناع أن أحداث معركة القسطل واستشهاد عبد القادر الحسيني ومذبحة دير ياسين لم تكن أحداث مترابطة. فمعركة “مشمار هعيمق” استمرت بين الرابع حتى الخامس عشر من نيسان، ولم تحدث في يوم واحد كما يرد في الكتاب.
ملامح شخصية عبد القادر
كذلك يقول روبينشتاين أن عبد القادر الحسيني ولد في 1910، بينما الكثير من المصادر تشير للعام 1908 وهذا أمر مهم في كتب السيرة برأي عادل مناع، الذي يشدد على حيوية التفاصيل الشخصية في مثل هذه النوعية من الكتب.
ويتابع: “كذلك لا بدّ في مثل هذا الكتاب أن يتطرق المؤلف لمعطيات شخصية وافية عن القائد المكتوب عنه وعن بيئته. على سبيل المثال لم يستشهد في ساحات المعركة في فلسطين من ناشطي عائلة الحسيني ومن بقية العائلات النخبوية المقدسية التي قادت الحركة الوطنية الفلسطينية، ولم يستشهد أبناؤها في معارك فلسطين وبعضهم تاجر في قضيتها”.
ويرى أنه من هذه الجهة، فإن عبد القادر الحسيني حالة شاذة من هذه الناحية. ويضيف: “لذا لا بدّ من استحضار طفولته، فقد ولد ووالده بالخمسينات من العمر، وكان زعيما مشغولا ولم يلتفت لتربيته كما ينبغي، وكذلك والدته توفيت وهو طفل، ولذا تزوج والده للمرة الثالثة فترعرع وكأنه يتيم من ناحية الأب”.
ويخلص مناع للتوضيح بأن روبينشتاين وضعه كتابه كصحافي لا كمؤرخ، ولم يدقق في كل التفاصيل. وتابع: “لا أعرف إذا كانت لديه القدرة على ذلك وهو في الثمانين من عمره، وقد وضع الكتاب عام 2017. تعتري الكتاب بعض النواقص، لكن كونه صحافي، فلا توجد لدي توقعات أكثر مما ورد في الكتاب، ولكن عندما نترجمه للعربية صارت القضية مختلفة، لأنه يعرّفنا على أنفسنا من خلال كاتب صحافي إسرائيلي، وكأنه يكتب رواية متوازنة، وهذه إشكالية كبيرة “.