الجرأة والندم .. رائد عبد الرحمن

الثلاثاء 20 أكتوبر 2020 09:15 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الجرأة والندم .. رائد عبد الرحمن



قد يستغرب البعض ان يبدأ كاتب فلسطيني مقالته بالحديث حول "اتورودو جيفكوف" الزعيم الشيوعي البارز الذي  حكم بلغاريا لمدة 34 عاما بدأها في مارس 1954 واصبح رئيسا في يوليو 1971 حتى نوفمبر 1989.

لسنا هنا في محاكمة تجارب دول اوروبا الشرقية حليفة الاتحاد السوفيتي السابق، ولكن اضاءات قليلة ومحكمة على التاريخ الشخصي لبعض من ساهموا في مسيرة بلادهم تعد عنصرا مهما لفهم صيرورة الحياة الانسانية عندما يتعثر الساسة في مواجهة تسونامي الغريزة والشعبوية التي لا تبقي ولا تذر حال تحركت متجاهلة بعنف دموي كل نظريات السياسة والثورة والنهضة.

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار جدار برلين اجبر المتظاهرون في العاصمة البلغارية صوفيا "جيفكوف" على التنحي عن منصبه وتم ايداعه السجن تمهيدا لمحاكمته بتهمة خيانة الشعب وتبديد أموال الدولة والعديد من التهم الموازية لحالات اسقاط النظم في الديكتاتوريات الحديثة واشباهها .

وبعيدا عن سردية اعتقاله واطلاق سراحه لاحقا قي العام 1996، ما يهمنا هنا الاشارة الى تفاصيل هامة صاحبت التحقيقات مع هذا الزعيم الشيوعي التاريخي، لعل اهمها ان قيادة الدولة الجديدة لم تجد ما يدين "جيفكوف" بفساد مالي او حسابات بنكية سرية وان كل يملكه فعلا هي شقة صغيرة في العاصمة البغارية صوفيا.

وفي محاولة من النظام الجديد لتشويه صورة الزعيم الشيوعي التاريخي أجرى التلفزيون البلغاري الرسمي لقاء معه في السجن تحدث فيه عن عقود من حكم الشيوعيين وما انجزوه وما لهم وما عليهم في تلك الحقبة المختلف عليها نظريا وعلميا حتى الان.

في رده على سؤال اثناء المقابلة الشهيرة والذي أثار صدمة من أجرى المقابلة حول ما يريده "جيفكوف" من الدولة بعد اعتقاله قال بهدوء انه يريد بطانية اضافية في زنزانته لانه يشعر بالبرد ليلا . 

امتلك "جيفكوف" في تلك المقابلة كل صفات القادة والزعماء التاريخيين الابرز وهي "الجرأة والندم" عندما قال حرفيا "لم نكن ندري بأننا بهذا القبح ليخرج الناس ضدنا بهذه الكثافة".

وفي انتقال غير مفاجئ سبقه تقديم مقصود لا يخفى على احد، فان "الجراة والندم " عبارة ومصطلح محرم وغير مطروق بابه في السياسة الفلسطينية بحداثتها وتاريخيتها رغم تمتعها دوما بالضعف والهزالة وغياب الرؤية والاستراتيجية، ما يجعل المراجعات والاعتراف بالخطايا اساسا صحيا للبدء من جديد او ترميم بقايا الخراب في مسيرة الحراك الفلسطيني الحالي والقادم.

عوامل كثيرة ساهمت في عملية الانهاك المستمر للوطنية الفلسطينية وكينونتها الفكرية ما أدى الى ما بات يعرف بـ"قبلية وطائفية سياسية" خطيرة وغير مسبوقة، لسنا هنا بصدد سرد تفاصيلها التي تحتاج الى الكثير من الجهد لرصد تقاطعاتها الاقليمة والدولية لفهم مسببات ودوافع التمركز اللامفهوم في حلقة الاندثار والخراب الحالي والقادم.

المراجعة العلمية المصحوبة بجرأة "الاعتراف والندم " اصبحت فرض عين السياسة الفلسطينية الحالية في ظل استحقاقات اللحظة التاريخية الحاسمة والتي سيترتب عليها وقوف الجميع أمام تحولات عميقة في الاقليم والعالم ستبقي الجميع مذهولا لسنوات قادمة وسط حالة من العجز الادراكي الذي سيترجم الى حقائق ومسلمات على ارض الواقع سيكون من الصعب تغيير معالمها خلال عقود قادمة.

الاستمرار في الوقوف على حافة المشهد ومراقبة التطورات الحادثة تحت حجة الممرات السياسية الاجبارية والاتفاقيات السابقة واقصد هنا "اوسلو" واستحقاقاته يخلق مشهدا عربيدا لمسرحية هزلية استنفذت اغراضها وتخلى عنها مخرجها وممثلوها وحتى كبار مؤلفيها من كبار الساسة الذين ساهموا  في صنعها عربيا وفلسطينيا واسرائيليا.

ان ممارسة ما بات يعرف بفن الانتظار واستمرار حالة اللافعل يعني بكل بساطة شرعنة عملية نفي الكينونة الفلسطينية التي تحترفها اسرائيل وسط تفهم دولي وعربي وتغييب حقيقي لمركزية القضية الفلسطينية في ظل سيطرة المصالح الاقليمية والقطرية على قرارات مصيرية كانت تحكم العلاقة العربية والاسلامية مع فلسطين طوال عقود.

يجب علينا كفلسطينيين الاعتراف بفشل المنهج وأدواته دون أي تأخير وان يفهم العالم انه قد اصبح من المستحيل الاستمرار في منطق الهزيمة التاريخية والاخلاقية التي تعرضنا لها في "اوسلو" كما وصفها الكثير من الساسة الاسرائيليين مؤخرا والذين طالبونا بتسليم مفاتيح السلطة ورميها في وجه العالم دون اي تردد كما قال "يوسي بيلين" احد مهندسي اوسلو.

ولعله  من المفيد التذكير حرفيا بما قاله يوسي بيلين في مارس 2017 للقناة العبرية الاولى حيث قال إنه " يتوجب على السلطة الفلسطينية وقيادتها أن تستقيل لأنّ وجودها بهذا الشكل يخدم سلطات الاحتلال الإسرائيلي ويدعم استمرارها".

وتابع "أنا الذي ابتكرت ذلك الاتفاق، وأنا أقول إنني أدعم حلّ السلطة الفلسطينية واستقالة القيادة الفلسطينية وإعادة المفاتيح لإسرائيل".

معارضة وجهة النظر هذه بذرائع ما تبقى من مشروع وطني وقضايا الموظفين تدخل عمليا ضمن الرؤية الاسرائيلية لموضوعة الوجود الفلسطيني "سكان" لهم احيتاجات انسانية ضمن منظومة الامن الاسرائيلية التي باتت تحت سيطرة اليمين الصاعد بتجلياته المختلفة.

ان اعادة انتاج "اوسلو" حول ما يسمى بانتخابات جديدة لسلطة الحكم الذاتي واستنساخ عقود من الوهم والضياع بصورة جديدة يصلح فقط لما بات يعرف بـ "الفانتازيا الفلسطينية" التي ستدشن عهدا جديدا من التناغم مع كل ما يحدث على الارض من ضم وتطبيع واندثار للمشروع الوطني" ولكن بمسميات جديدة هدفها المركزي الحفاظ على القبيلة والطائفية السياسية والارتزاق الاقليمي والدولي لا أكثر ولا أقل.

ما نحتاجه الان ، هو علاجات جراحية، ومعالجات حاسمة عنوانها "الجرأة والندم" المصحوبة بقرارات تاريخية والقاء الكرة في ملعب الاحتلال والتوقف عن الملهاة الحالية دون تردد.