معهد السياسة والاستراتيجية - بقلم: ميخائيل ميلشتاين (رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية بمركز موشيه دايان بجامعة تل أبيب)
سجلت في الأسابيع الأخيرة يقظة في خطاب المصالحة الفلسطينية الداخلية بين السلطة وحماس. وعلى خلفية ذلك ثمة أزمة استراتيجية متعددة الأبعاد يشعر بها الطرفان، ولا سيما أبو مازن الذي علق في إحساس حاد من العزلة في أعقاب الاتفاقات السياسية بين إسرائيل والإمارات والبحرين، ويجد صعوبة في عرض رؤيا أو أفق استراتيجي ما على الجمهور الفلسطيني. أما حماس من جهتها، فتعيش ضائقة متواصلة على خلفية الوضع المدني المتفاقم في القطاع والذي يصعب عليها تحسينه. وبالتالي، فإن الطرفين يسيران نحو المصالحة انطلاقاً من ضائقة تاريخية عميقة، إلى جانب الرغبة في عرض حضور لهم.
تنطوي جولة المحادثات الحالية بين السلطة وحماس على فارقين مهمين مقارنة بالمباحثات والاتفاقات العديدة التي سبقت، في الـ 13 سنة، منذ انقسمت الساحة الفلسطينية في أعقاب سيطرة حماس على قطاع غزة. ينطوي الفارق الأول في الرعاية التركية للمحادثات، وذلك بعد أن تحققت كل الاتصالات بين فتح وحماس حتى اليوم برعاية أو وساطة جهات عربية وعلى رأسها مصر. ينبع الأمر في أساسه من إحساس المهانة القاسي لدى أبو مازن في ضوء سلوك العالم العربي في الوقت الحالي، الأمر الذي يدفعه نحو أردوغان وحليفته – قطر، المتماثلين مع الإخوان المسلمين، والأقرب إلى حماس منهما إلى السلطة.
الفارق الثاني ينطوي على أن خيوط إدارة “ملف المصالحة”، مُنحت لجبريل الرجوب، أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح ومن قادة الحركة. ويعمل الرجوب بنشاط لتحقيق المصالحة عملياً، وذلك في ضوء تطلعاته لخلافة أبو مازن، وفي ضوء اعتباره “ملف المصالحة” عماداً مركزياً يمكنه بواسطته أن يثبت مكانة زعيم وطني. وحسب فهمه، يمكنه أن يحقق هذا الهدف بعد إجراء انتخابات وفي أعقاب تشكيل حكومة وحدة يقف هو على رأسها.
يتطلع الطرفان إلى إظهار جدية أكبر من الماضي في الحوار بينهما بل وبلورا تفاهمات بينهما تعكس أهدافاً مشتركة، في ظل تجاوز الخلافات التي أدت في الماضي إلى فشل اتصالات المصالحة. تبرز في هذا السياق إعلانات قادة فتح وحماس بأن الطرفين اتفقا على أن هدفهما في الوقت الحالي هو إقامة دولة فلسطينية في حدود 1967 عاصمتها القدس (دون طرح الشرط الذي وضعته السلطة في الماضي بشأن الحاجة إلى الاعتراف بالاتفاقات السياسية التي وقعتها، الأمر الذي رفضته حماس رفضاً باتاً)؛ وأن المقاومة الشعبية هي وسيلة الكفاح المركزية ضد إسرائيل في الوقت الحالي (مع إيضاح حماس بأنها هي نفسها لن تهجر أبداً المقاومة المسلحة)؛ وأن تقود م.ت.ف المعركة السياسية للفلسطينيين؛ وأن تجرى الانتخابات المستقبلية على أساس نسبي.
رغم أجواء التفاؤل التي يحاول الطرفان إطفاءها، ثمة مجال مفهوم للشكوك في إمكانية تحقيق “مصالحة كاملة”. أبو مازن هو الحاسم الحصري في المسألة من جانب السلطة، ولكن واضح أنه لا يسارع إلى رفع التفاهمات إلى الخطوط العملية، ويبدو أنه اختار الانتظار إلى ما بعد انتخابات الولايات المتحدة (3 تشرين الثاني)، كي يفحص هل ستطرأ تحولات في سلوك إدارة واشنطن تجاه الموضوع الفلسطيني. إضافة إلى ذلك، ومع أن باقي مسؤولي السلطة يعلنون على الملأ تمسكهم بتحقيق المسيرة إلا أن في أوساطهم ومن وراء الكواليس، تخوفاً شديداً يحوم من تحققها السريع بشكل يقوض سيطرة “فتح” في الضفة ويشجع رفع الرأس من جانب حماس. وذلك حين لا تزال في الخلفية ذاكرة صدمة قاسية تكوي وعيهم عميقاً من صيف 2007 في قطاع غزة.
في الظروف الحالية قد لا يكون هناك خطر لانعطافة استراتيجية فورية في الساحة الفلسطينية، ولكن يتعاظم الخوف من “حوادث تاريخية” – تقع بشكل متواتر في الساحة الفلسطينية – وذلك رغم تخطيطات أو مصالح السلطة الفلسطينية. وإن احتمال ذلك أكبر مما في الماضي، في ضوء ضائقة عميقة للحكم الفلسطيني ورغبته في التمسك بخطوة تجسد حضوره، إلى جانب الدافع الشخصي القوي لدى الرجوب في تحقيق المسيرة.
قد تنشأ في هذا الإطار عدة تحديات سلبية من ناحية إسرائيل:
1*دخول لعناصر حماس إلى المؤسسة السلطوية في الضفة، وإن كان دخولاً رمزياً ومحصوراً، ولا سيما الوزارات الحكومية، ويحتمل في جهاز الأمن أيضاً مستقبلاً. ويمكن لهؤلاء أن يشكلوا “رأس جسر” قد يتسع في المستقبل في ظل تثبيت قدرات ومكانة حماس الجماهيرية في الضفة.
2*تخفيض كبير للضغط عديد السنين الذي تعمل عليه السلطة ضد حماس في الضفة – سواء في البعد المدني (نشاط في الجمعيات الخيرية والمساجد، وأذون لمناسبات جماهيرية)، أم في البعد العسكري (إحباط الخلايا السرية والعمليات).
3*محاولة للدفع بالانتخابات إلى الأمام في ظل تجاوز العوائق التي تضعها إسرائيل في وجهها داخل الضفة: فمنع وجودها في القدس قد يحل من خلال التصويت الموجه أو من خارج نطاق القدس؛ وسيكون ممكناً تحقيق وتنفيذ عملية التصويت وإحصاء الأصوات بوسائط تكنولوجية؛ وحماس، مثلما في الماضي، تحقق مشاركة في الانتخابات رغم خطوات إسرائيل ضدها، وعلى رأسها اعتقال كبار نشطائها.
4*في مرحلة متقدمة أكثر، يمكن للفلسطينيين أن يتوجهوا إلى إقامة حكومة وحدة، سيكون بوسع خطواتها المشتركة (بين ممثلي الضفة والقطاع) أن تنفذ هي أيضاً بشكل موجه. ومن المعقول أن يكون ممثلون لحماس من الضفة في التشكيلة المستقبلية للحكومة.
5*في قطاع غزة – ستكرر حماس النموذج الذي تحقق بعد اتفاق القاهرة في تشرين الأول 2017، وبموجبه تسمح للسلطة بأن تبدي وجوداً رمزياً وتحقق ظاهراً تغييرات تجميلية في إدارة الحكم في المنطقة (وفي ظل استمتاع الحركة من رفع العقوبات المدنية على سكانها). وذلك دون أن تقوض مكانة حماس المهيمنة في هذا القطاع بشكل حقيقي، فما بالك التنازل عن سيطرتها العسكرية فيه (محللون مختلفون أخطأوا في وصفهم ميل حماس لتبني “نموذج حزب الله”، الأمر الذي لم تفكر فيه الحركة نفسها بجدية قط.
تنطوي جولة المصالحة الحالية بالتالي على تهديد محدود نسبياً من ناحية إسرائيل في المدى القريب، ولكن احتمال الضرر الاستراتيجي الجسيم على مدى الزمن ولا سيما إذا تعمقت الأزمة بين إسرائيل والسلطة. لإسرائيل مصلحة في منع هذه السيناريوهات، والوسيلة المركزية لهذا الغرض يجب أن تكون استئناف التنسيق والاتصال الرسمي بينها وبين السلطة الفلسطينية، واللذين أوقفهما أبو مازن في 19 أيار على خلفية الخطاب الإسرائيلي في موضوع الضم، ولم يستأنفهما حتى بعد توقيع الاتفاق مع الإمارات والذي أزال ظاهراً مسألة الضم عن جدول الأعمال. واستئناف التنسيق مطلوب منعاً للآثار السلبية في مسيرة المصالحة، ولإحباط سيناريوهات إشكالية أخرى، وعلى رأسها ضعف أدائي متواصل للحكم الفلسطيني بشكل يعمق العلاقة المباشرة بين الجمهور الفلسطيني وإسرائيل ويوسع المسؤولية المدنية للأخيرة على الواقع في الضفة؛ ونشوء احتجاج جماهيري يضعضع مكانة السلطة الفلسطينية من الداخل (ولا سيما من جانب موظفي القطاع العام الذين يتلقون راتباً جزئياً في الأشهر الأربعة الأخيرة)، واستقرار الساحة الفلسطينية قبيل سيناريو “اليوم التالي” لأبو مازن؛ وبالطبع مواصلة منع نشوء تهديدات أمنية، وعلى رأسها الإرهاب وخطوات شعبية واسعة.
“إنزال السلطة عن الشرطة” هو مصلحة إسرائيلية إذن ليس أقل منها فلسطينية، وسيكون ممكناً تحقيقها بواسطة خطوات سياسية مثل منح ضمانات للفلسطينيين بأن خطوات الضم لن تتحقق (خطوة ليست معقدة أكثر مما ينبغي، بعد أن أوقعت الآن اتفاقات مع الإمارات والبحرين). وذلك إلى جانب وعد بالعمل على توفير مساعدة اقتصادية واسعة النطاق للسلطة الفلسطينية التي تعاني من أضرار كورونا وإضرار القطيعة مع إسرائيل. سيكون ممكناً في هذا الإطار محاولة تعميق نفوذ دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، على الساحة الفلسطينية. ويبدو أن القيادة الفلسطينية تتطلع إلى “النزول عن الشجرة” في ضوء خوفهم من تقويض مكانة السلطة، بحيث يجب أن تتركز وسائل الإقناع الخارجية على أبو مازن الذي يواصل التمسك بخط استراتيجي جامد.
لبعد الزمن أهمية حرجة، فكلما تأخرت إسرائيل في جهودها لحل الأزمة مع السلطة الفلسطينية يزداد احتمال الضرر – سواء في كل ما يتعلق بتحقيق المصالحة والمرابح التي قد تجنيها حماس جراء ذلك أم في كل ما يتعلق بضعف السلطة الأدائي والآثار الاستراتيجية والأمنية للميل على إسرائيل. رغم تركيز إسرائيل الواسع والمفهوم على مشاكل كورونا الصعبة –بآثارها الاقتصادية والاجتماعية– والأزمة السياسية العميقة في الداخل، سيكون من الحيوي توجيه الاهتمام والجهد في الوقت الحالي لاستقرار الساحة الفلسطينية أيضاً، وذلك قبل أن تتطور من جهتها تهديدات سلبية على وضع إسرائيل العام.