أشرنا قبل أسبوع إلى مرافعة أيديولوجية بين دفتي كتاب. الكتاب بعنوان «المملكة السعودية بين المطرقة الجهادية والسندان الإيراني» (2015) لعلي الشهابي. وهو من أصول فلسطينية، أبوه سمير الشهابي من مواليد القدس. التحق الأب بالدبلوماسية السعودية منذ العام 1949، وكان من أبرز ممثليها، وكان مقرباً من الملكين فيصل وفهد، وتولى ملفات بالغة الحساسية: دعم «الجهاد الأفغاني»، و»الحرب» على الشيوعية. ولا نعرف ماذا فعل في العالم العربي، فالكثير من هذه الملفات لم يفتح بعد.
والمهم، عاش الابن الذي نشأ في أوساط نخبة بيروقراطية الدولة السعودية، (كائناً ما كانت)، في بلدان وتعلّم في مدارس أجنبية، وتولى في الحياة العملية مناصب رفيعة في عالم الصيرفة والمصارف، كما يظهر اسمه، ضمن قائمة مناصب كثيرة، في الهيئة الاستشارية لمشروع مدينة «نيوم». ولعل في الصفة الأخيرة، وبقدر ما يتعلّق الأمر بموضوعنا، ما أضفى أهمية على الكاتب والكتاب. ونشر قبل الكتاب المذكور رواية عن حرب عربية ـ إسرائيلية بسيناريوهات سوداوية.
على أي حال، اللافت أن نشر المرافعة الأيديولوجية بين دفتي كتاب تصادف مع تنصيب الأمير سلمان ملكاً. لذا، تصبح الأهمية مزدوجة على ضوء ما وقع في عهد الملك الجديد، وابنه، من تحوّلات راديكالية، خاصة وأن الكثير مما جاء في المرافعة تجلى في وقت لاحق، وحتى الآن، كجزء رئيس في خطاب التحوّلات الراديكالية بوصفها مشروعاً لـ «الإصلاح».
وتبقى، قبل الانتقال، إلى صلب المرافعة الأيديولوجية، ملاحظة لا غنى عنها، ويصعب في الواقع فهم المرافعة في حال غيابها. فالشهابي ينتمي إلى فئة اجتماعية جديدة تستمد رأسمالها الرمزي، ومكانتها، من تعليمها العالي، وخبراتها في بيروقراطية الدولة، وشبكاتها المالية، والدبلوماسية، والإعلامية، في الداخل والخارج. أغلب ممثلي هذه الفئة بلا مؤهلات تقليدية: ليسوا من العائلة الحاكمة، ولا من القبائل النجدية، وهم في الغالب من أصول حجازية حديثة العهد، وعائلات مهاجرة تسعودت، كبن لادن وخاشقجي، إضافة إلى أبناء مهنيين وأصحاب تخصصات نادرة في السنوات الأولى التي أعقبت قيام الدولة السعودية.
ولا يبدو أن ثمة مبالغة في القول إن هؤلاء هم «السعوديون الأوائل»، أي أبرز ممثلي الهوية السعودية، الآن وهنا، لا بوصفها رابطة عائلية، أو قبلية، بل بوصفها هوية «وطنية» جامعة نبتت في حاضنة بيئة دولانية على مدار تسعة عقود من عمر الدولة. ولنلاحظ أن «الوطنية» جاءت هنا بين مزدوجين، فمن الصعب الجزم في هذا الشأن بطريقة حاسمة. فالوهابية، وهي «الدين القومي» للدولة السعودية معادية للوطنية كهوية جامعة أعلى من رابطة الدين، كما أن خصوصية العلاقة بين الوهابية والدولة تجعل تحرير الحقل السياسي (إن وجد، وعندما يوجد) من هيمنة الحقل الديني أمراً بالغ الصعوبة والتعقيد.
لذا، لا أمل للفئة الجديدة في التفاوض على مكان ومكانة تعتقد أنها جديرة بهما، في بنية المجتمع والدولة، دون تمثيلها لهوية «وطنية» جامعة، ودون ربط مصيرها بمصير النظام، ولكن بعد ترميمه، وإصلاحه، بطريقة تمنحه المزيد من أسباب البقاء، طالما أن مستقبل الهوية لا ينفصل عن مستقبل النظام نفسه، الذي تمثل العائلة الحاكمة ضمانة وجوده. وبهذا المعنى، الفئة المعنية إصلاحية ومحافظة في آن، بلا رافعة قبلية أو دينية، ولا ضمانات يوفرها وجود حقل سياسي، بما يعني من تقاليد وضوابط تمنحها الإحساس بالطمـأنينة والأمان.
ولو ظهرت هذه الفئة إلى الوجود في ستينيات، أو سبعينيات القرن الماضي، (كان ممثلوها في الحضانة، أو لم يُولدوا بعد) لكان من الممكن أن نرى بينهم قوميين، وعروبيين، وماركسيين، ويساريين، وثوريين ملاحدة ومؤمنين (كما كان الشأن في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، التي أنجبت «الأمراء الأحرار»، وعبد الله القصيمي، وناصر السعيد).
ولكن هذه الفئة ظهرت بعد نهاية الحرب الباردة، وانكسار القومية العربية، وانحسار حركة التحرر القومي في المستعمرات، وفي زمن الطفرة النفطية، والعولمة، والليبرالية الجديدة. ولعل في خصوصيات كهذه، وبقدر ما يتعلّق الأمر بموضوعنا، ما يبرر التعبير عن قدر كبير من التشاؤم، فالأبناء لم يعرفوا ما سبق وعاشه الآباء من زمن الأعصاب النافرة، والخوف من المستقبل، وممارسة التقيّة، كلما اقتضت الحاجة. لذا، كان في تماهيهم مع النزعات المحافظة واليمينية في الغرب ما ينسجم، أيضاً، مع المكوّنات اليمينية والمُحافظة في الهوية التي يسعون لتمثيلها، والنظام الذي يدينون له بالولاء، ويجتهدون في خدمته.
لذا، ومع هذا كله في الذهن، نقترب الآن من حجر الأساس في المرافعة، التي تبدو بدورها مكوناً رئيساً في خطاب مشروع «الإصلاح»، الذي يُراد لدبي ونيوم تمثيل درّة التاج فيه: بماذا عادت القومية العربية، والأيديولوجيات الراديكالية، ومشاريع التحرر، والنزعات الجمهورية، والمساواتية، على مواطني بلدان كالعراق، وليبيا، والجزائر، مثلاً، وكلها دول نفطية، وكلها تبدو في أسوأ وضع ممكن مقارنة بالسعودية؟ وهذا يصدق على بقية بلدان العالم العربي، التي ابتليت بداء أيديولوجيات مستوردة.
هذا هو سؤال الكاتب. وقد أشرتُ، في معالجة سبقت، إلى برنار هيكل، الأكاديمي الأميركي من أصل لبناني، الذي قدّم للكتاب «بلا حياء». فلا يمكن التعامل مع فرضيات وأسئلة كهذه دون تحفّظات كثيرة، لحفظ ماء الوجه، بالمعنى المهني على الأقل. ولماذا كل هذا؟ لم نفرغ من المرافعة وصاحبها بعد. فاصل ونواصل.