لم يشأ الرئيس المكلّف مصطفى أديب الرضوخ لشروط الثنائي الشيعي في تشكيل الحكومة اللبنانية العتيدة بل ارتأى الاعتذار عن الاستمرار في مهمة تأليف الحكومة، الأمر الذي أثار عاصفة من ردود الفعل الداخلية والخارجية أبرزها اتهام مصدر مقرّب من راعي المبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأحزاب بممارسة “خيانة جماعية”.
وجاء اعتذار الرئيس أديب بعد سلسلة اجتماعات عقدها مع الخليلين اللذين تمسّكا بشرط تسمية الوزراء الشيعة ما سيدفع بكتل وقوى سياسية أخرى الى المعاملة بالمثل وهو ما ظهر في مواقف لرئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية ورئيس الحزب الديموقراطي اللبناني طلال أرسلان والأمين العام لحزب الطاشناق أغوب بقرادونيان. وعليه وبعد استمهال مرتين بناء على طلب الرئيس ماكرون قدّم الرئيس المكلّف كتاب اعتذاره الى الرئيس اللبناني ميشال عون الذي قَبِل الاعتذار من دون أن يُقرِن موافقته بالدعوة إلى استشارات جديدة في انتظار مزيد من المشاورات ومعرفة مصير المبادرة الفرنسية التي أعلن العديد من الأطراف المسؤولين عن إفشالها تمسّكهم الظاهري بها.
بيان الاعتذار
ومما جاء في موقف أديب في خلال إعلانه الاعتذار قوله: “عندما سمّتني غالبية كبيرة من نواب الأمة في الاستشارات الملزمة، وكلّفني فخامة الرئيس بناء عليها تشكيل الحكومة، تشرّفت بالقبول على أساس أنني لن أتخطى مهلة الأسبوعين لتشكيل حكومة إنقاذ مصغرة، ذات مهمة إصلاحية محددة ومفصّلة استناداً إلى المطالب الإصلاحية العارمة للبنانيين، قوامها أفضل ما يوفّقنا إليه الله من اختصاصيين مشهود لخبرتهم ونزاهتهم ومعرفتهم بالإدارة، وليس من بينهم أصحاب انتماءات حزبية أو من تسمّيهم الأحزاب. وكان تفاؤلي كبيراً لمعرفتي أن هذه المواصفات كلها وافقت عليها الكتل الرئيسية في المجلس النيابي والتزمتها أمام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، صاحب المبادرة الإنقاذية الدولية المتاحة أمام بلدنا، في اجتماع حصل مطلع الشهر الجاري في قصر الصنوبر، جرى فيه تدوين الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية المفصلة واللازمة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عمر الحكومة، والتي التزمت الكتل نفسها دعمها في المجلس النيابي الكريم”.
وقال: “كان واضحاً في المقابل أن تشكيل حكومة بهذه المواصفات الاختصاصية المبنية على الكفاءة والنزاهة، والتزامها مع الكتل النيابية برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري التفصيلي، من شأنه أن يسمح للرئيس ماكرون بالإيفاء بوعده بتجييش المجتمع الدولي لدعم لبنان، بدءاً من مؤتمر دولي في باريس بعد حوالى الشهر من نيل الحكومة ثقة المجلس النيابي. وما زاد من تفاؤلي أن برنامج الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية المفصّل الذي التزمه الجميع في الأول من أيلول/ سبتمبر، شكّل مسودة أولى شبه جاهزة للبيان الوزاري، وخصوصاً أنني أعلنت بوضوح لجميع الكتل النيابية أن لا نية لديّ شخصياً أو لدى أي تشكيلة حكومية أنا في صددها، الولوج في أي شأن سياسي، وهو ما طلبته على شكل تعهّد قاطع من جميع الأسماء التي فكّرت باقتراحها من ضمن التشكيلة الحكومية. وفور شروعي بالاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة، أعلن عدد من الكتل النيابية نيته عدم تسمية أحد للحكومة مع التزامه تسهيل عملها، فيما أبلغتني بقية الكتل أن لا شروط لها على مثل هذه الحكومة، سوى التزام مسودة الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية المتفق عليها. كما أنني أبلغت جميع الكتل التي تواصلت معي بعد الاستشارات، أنني لست في صدد إيثار فريق سياسي على آخر، أو في صدد اقتراح أسماء قد تشكل استفزازاً لأي طرف، مهما بلغت كفاءاتها المهنية أو الإدارية للمنصب المطلوب، وهو ما قوبل بارتياح عبرت عنه الكتل جميعاً”.
وأضاف الرئيس أديب: “مع وصول المجهود لتشكيل الحكومة إلى مراحله الأخيرة، تبيّن لي أن هذا التوافق الذي على أساسه قبلت هذه المهمة الوطنية في هذا الظرف الصعب من تاريخ لبنان، لم يعد قائماً، وبما أن تشكيلة بالمواصفات التي وضعتها باتت محكومة سلفاً بالفشل، وحرصاً مني على الوحدة الوطنية بدستوريتها وميثاقيتها، فإني أعتذر عن عدم متابعة مهمة تشكيل الحكومة، متمنياً لمن سيتم اختياره للمهمة الشاقة من بعدي، وللذين سيختارونه، كامل التوفيق في مواجهة الأخطار الداهمة المحدقة ببلدنا وشعبنا واقتصادنا”.
وختم متوجّهاً بالاعتذار الصادق من “الشعب اللبناني الذي عانى ويعاني، والذي أفهمه ويفهمني عن عدم تمكني من تحقيق ما يطمح إليه من فريق إصلاحي يعبر من نافذة الإنقاذ التي فتحتها مبادرة الرئيس ماكرون المشكورة للبنان واللبنانيين. وإنني أؤكد أن هذه المبادرة يجب أن تستمر لأنها تعبّر عن نيّة صادقة من الدولة الفرنسية الصديقة ومن الرئيس ماكرون شخصياً بدعم لبنان ومساندته. حمى الله لبنان واللبنانيين”.
وبعد الاعتذار، بدأت القوى السياسية تتنصّل من مسؤولياتها عن إفشال المبادرة الفرنسية، وأكد الرئيس عون أن “المبادرة التي أطلقها الرئيس ماكرون لا تزال مستمرة وتلقى مني كل الدعم وفق الأسس التي أعلنها الرئيس الفرنسي”.
وأضاف في اليوم التالي أنه “إذا كان الوعد مقدّساً فكم بالحري قسم اليمين! يمين احترام الدستور والقوانين وصون استقلال الوطن ووحدة أراضيه”، وتابع: “أقسمت وسألتزم قسمي حتى اليوم الأخير من عهدي وسأبقى سداً منيعاً في وجه كل من يحاول المسّ بمضمونه”.
وفيما لم يصدر أي تعليق من حزب الله على اعتذار أديب، أكّد المكتب الإعلامي لرئيس مجلس النواب نبيه بري أنّ “لا أحد متمسكاً بالمبادرة الفرنسية بقدر تمسّكنا بها ولكن هناك من أغرقها في ما يخالف كل الأصول المتبعة”، وأوضح في بيان أنّ “المبادرة الفرنسية روحها وجوهرها الإصلاحات، والحكومة هي الآلة التي عليها أن تنفّذ هذه الإصلاحات بعد إقرارها، وأعتقد أن كل الكتل مع هذه الإصلاحات والمجلس النيابي أكثر المتحفّزين لإقرار ما يجب، ونحن على موقفنا بالتمسك بالمبادرة الفرنسية وفقاً لمضمونها”.
أما رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري وفي أول تعليق على اعتذار أديب الذي كان وراء تسميته فقال: “مرة جديدة، يقدّم أهل السياسة في لبنان لأصدقائنا في العالم نموذجاً صارخاً عن الفشل في إدارة الشأن العام ومقاربة المصلحة الوطنية”.
وأضاف: “اللبنانيون يضعون اعتذار الرئيس المكلف مصطفى أديب عن مواصلة تشكيل الحكومة اليوم، في خانة المعرقلين الذين لم تعد هناك حاجة لتسميتهم، وقد كشفوا عن أنفسهم في الداخل والخارج ولكل من هبّ من الأشقاء والأصدقاء لنجدة لبنان بعد الكارثة التي حلّت ببيروت”.
وختم الحريري: “نقول إلى أولئك الذين يصفّقون اليوم لسقوط مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إنكم ستعضون أصابعكم ندماً لخسارة صديق من أنبل الأصدقاء ولهدر فرصة استثنائية سيكون من الصعب أن تتكرّر لوقف الانهيار الاقتصادي ووضع البلاد على سكّة الإصلاح المطلوب”.
وفي ما يشبه المأزق الذي بلغه الاعتذار لجهة صعوبة تكليف رئيس حكومة جديد، ردّ المكتب الإعلامي للرئيس سعد الحريري على ما بدأت وسائل إعلامية بترداده عن احتمال عودته إلى رئاسة الحكومة، فأكد أنه “عطفاً على ما يتم تداوله إعلامياً، يؤكد المكتب الإعلامي للرئيس الحريري أنه غير مرشّح لتولّي تشكيل الحكومة الجديدة، إلا أنه يبقى على موقفه الداعم لمبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمسهّل لكل ما من شأنه إنجاحها بصفتها الفرصة الوحيدة والأخيرة لوقف انهيار لبنان”.
لا خضوع لحزب الله
وعلى خطى شقيقه، فإن رجل الأعمال بهاء الحريري أكد أن “أيام الخضوع لحاجات حزب الله وأمراء الحرب يجب أن تكون وراءنا”، وقال: “إننا بحاجة إلى حكومة غير طائفية تضم أشخاصاً أكفاء وغير متحيّزين يتمتعون بصلاحيات إرسال مساعدات للبنان تصل مباشرةً إلى الشعب اللبناني وليس إلى أمراء الحرب، والدعوة إلى تحقيقٍ مستقلٍّ في قضية انفجار 4 آب/ أغسطس في بيروت، والتأكّد من عدم وجود دور لـ”حزب الله” في اختيار قادة الحكومة، والبدء بعملية تشكيل دستورٍ جديدٍ غير طائفي”.
ورأى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط “أننا لم نستفد من نافذة صغيرة جداً فتحها الرئيس ماكرون والكل سوف يتباكون على المبادرة الفرنسية”.
لبنان إلى أين؟
واعتبر رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع أنّ “اعتذار أديب أكد المؤكد بأنه لا يمكن التفكير بأي إنقاذ إلا بحكومة مستقلة فعلاً، وأن تسمية الوزراء من قبل فرقاء المجموعة الحاكمة الحالية قد أثبت فشله وأدى بالبلاد الى ما أدى إليه”. ولفت إلى أنّه “لا يمكن التفكير من الآن فصاعداً بتشكيل أي حكومة، إلا انطلاقاً من الأسس التي اعتذر الرئيس أديب بسببها”. وختم مهنّئاً الرئيس المكلّف بقوله: “تهانيّ الحارة للرئيس أديب، ولو لم نكن قد سمّيناه، لأنه أول مسؤول لبناني يستقيل عندما لا يتمكّن من أن يترجم قناعاته”.
ويفتح اعتذار أديب الوضع اللبناني على كل الاحتمالات، وبات محتّماً أن لبنان سينزلق إلى المجهول أو إلى جهنّم كما توقّع الرئيس عون، في ظل استبعاد قبول أي شخصية سنّية التكليف لتأليف حكومة جديدة، ما يعني تعويم حكومة تصريف الأعمال حسان دياب التي لن يتعاون معها المجتمع الدولي ولا الدول العربية.