اكتشافاتي لذاتي والكتابة والإعاقة (2 من 2)..عبد الغني سلامة

الأربعاء 09 سبتمبر 2020 06:27 م / بتوقيت القدس +2GMT
اكتشافاتي لذاتي والكتابة والإعاقة (2 من 2)..عبد الغني سلامة



جمال القواسمي:
على صعيد النمط الحياتي الذي كنت أعيش فيه، قبل عام 1990 كنت شخصاً غير مستقل في حياتي اليومية، وأعتمد على أمي في تناول الطعام وتغيير ملابسي؛ وكنتُ في شبه حصار وشبه سجن، فليس بوسعي الخروج من البيت وحسب، بل لم يكن من السهل عليّ أن اتنقل من الغرفة الكبيرة إلى الغرفة الصغيرة أو إلى المطبخ داخل البيت؛ ليس لأنَّ بيتي غير مهيَّأ للكرسي المتحرك؛ بل لأنني كنتُ غير مستقل بتاتاً، وضمور العضلات يجعلني ضعيفاً لا أقوى على فتح زر، أو الإمساك بملعقة بثبات. لم يكن ثمة أصدقاء لي أو أقارب شبان بعد بوسعهم حملي وحمل الكرسي المتحرك ليرافقوني في مشاوير خارج البيت أو شمات هوا أو للتسوق.
هكذا كنتُ أربط حياتي مع العالم الخارجي والواقعي من خلال أمي وأهلي وجهاز الراديو: ما أسمعه من الناس أو أهلي هي مادة تعلقي بالمجتمع ومعرفتي به، وبالتالي كانت كتابتي حالمة ونفسية أكثر منها وصفية ومكانية، نعم كنتُ شبه سجين، وكنتُ شخصاً ناقماً على مجتمعي، ولا منتم على نحو رافضٍ له، ذلك يتضح في مجموعتي القصصية الأولى «العرافة حياة». أستمع لمونتي كارلو، وإذاعة عمان الإنكليزية طوال الوقت، عالمي الأفلام والموسيقى والكتب، كم كنت مهووساً بالكتب والتلفزيون، وكنت في كل سنة تقريباً، حين يكون بوسعي الوصول إلى معرض كتاب أو مكتبة أنتهز الفرصة وأشتري كميات ضخمة من الكتب، وتبدأ طوش في الدار: أخي ابو زكي يقول: كتير هلقد، وأمي تقول لي: كتب كمان؟ وين بدك تحطهم يما يا حبيبي؟
قبل سنوات التقيتُ مع صديقي يحيى حجازي، كل بضع سنوات نلتقي مصادفة جميلة على قارعة الطريق، نضحك ونتواعد باللقاء، نلتقي بشكل عابر، ولكن ذات مرة دردشنا وذكرني بحادثة كنتُ قد نسيتُها من حياتي تماماً؛ كيف أنسى حادثة فارقة كهذه؟ صديقي ذاكرتي الجميلة الضائعة، قال لي إنه لن ينسى كيف عصّبت عليه وعلى يوهانس رفيقه الألماني المتطوع في التأهيل، فقد جاءا إلى البيت عندي ذات يوم ليعلماني كيف أصعد درج بيتي وحدي، كيف أزحف على الدرج وأجرُّ كرسيي المتحرك خلفي، كيف سأمسك بها؟ كيف سأجرُّها؟
ضحك يحيى، وقهقه مطولاً وقال: ولا يمكن أنسى ردة فعلك يا جمال، غضبت مني ومن يوهانس، أنا أزحف على الأرض؟ مجنون أنا! سيبوني بحالي مشان الله!
سألتُه: أحقاً تصرفت هكذا! عن جد؟
لماذا نسيته؟ لطالما خرجت من الدار واضطررتُ أن أزحف على الأرض على إليتي أحياناً وحدي متسلقاً على الدرج، حيناً لأنني وحدي، وحيناً لأنني زعلان من أحد من أهلي ولا أريد مساعدتهم.
كانت أمي الحنونة قد اشترت للكرسي المتحرك سكوتش تايپ وقصَّت إسوارتين منه وربطتهما في خلفية الكرسي المتحرك؛ كنتُ في فترة ما من عمري وحتى عهد قريب، قبل لقائي المفاجئ مع يحيى، أعتقد أنني اكتشفت طريقة للتغلب على الدرج، ولكن ها هو يحيى يصدمني: جئتُ انا ويوهانس وعلَّمك يوهانس كيف تتسلق الدرج زحفاً.
أضحكني على نفسي، هذا التصرف كم يلائمني!
يا إلهي، يا ذاكرتي الضائعة، لماذا أنسى موقفاً بهذه الأهمية! إنني أنسى ضعفي وقلة حيلتي، أتجاهلها، أغيِّبها، أنفيها، أتناساها، أنساها تماماً، إنها لا تهمني ولا تمثلني؛ في باطني ولاوعيي كنت كأنني أقول: إذن سأتذكر قوَّتي ونضالي الفردي الخاص ضد المحيط الفيزيائي العِدائي! هكذا أمجّد بطولتي اليومية وأعزز ذاتي وسبل مواجهة الحياة وقسوتها ودرجها وعراقيلها. هذا لا يعني أنني لست ممتناً ليحيى أو يوهانس بفضل تعليمي أو أنني اردتُ تجاهل فضلهم، لكنني أتناسى ضعفي لأنني عزيز النفس ولستُ بكَّاءً ولا متَحزْوِناً.
كإنسان معوق، يحاربونك، كرجل أو امرأة يحاربونك، كموظف أو موظفة يحاربونك، كأب أو أم يحاربونك، كجار أو جارة يحاربونك، كقريب أو قريبة يحاربونك، يعتقدون انَّكَ أو أنَّكِ الحيط المايل والضعيف، ثمة شبكة نسيجية من المجتمع ككل يحاربونك بها، يقصُونك ويستغلونك ويصفونك بالوصائم، يريدون السيطرة عليك ككلب عند أقدامهم لمصلحتهم ضد أعدائهم، لا يرون أبعد من مصلحتهم المباشرة، ببساطة، إنهم لا يرونك.
بالنسبة لي، سأفتخر بأنني قاص، مترجم صحافي، وعامل تأهيل، وأمين مكتبة، ومعلم للغة الإنكليزية، وصديق وأخ وحبيب وأب، ويكفيني محبة البعض. سأفتخر بأني قاص وكاتب؛ نشرتُ بعض كتبي بما اقتطعته من طعام أطفالي وعمل زوجتي، لأني لا أعمل منذ عشر سنوات، وأعيش على مخصصات الإعاشة الاجتماعية.
منذ 20 عاماً لم أوافق على إجراء لقاءات معي في الصحف، لأنها لا تهدف للكلام عن أدبي أو قصصي، بل للتكلم عن الإعاقة وتعامل الناس النمطي مع ذوي الاحتياجات الخاصة والروح الإيجابية الزائفة والمُفرطة في مواقفها ضد أو مع. كنتُ أرفضها تماماً؛ الإعاقة ليست كل ذاتي، هي جزء، فلماذا تصبح كل شيء في صحافة الصورة النمطية؟ إنهم يعتبرون جمال قصة نجاح مثالية، يريدون إبراز المظاهر، ولا يريدون إظهار المعاناة. يريدون أن أكون في صورة قدوة، وأن يعرضوا فقط الجانب المتلألئ من جمال: السيارة وعدد كتبه وسفره وزواجه! ذلك جزء بسيط من اغترابي، للأسف، عن مجتمعي. وأنا أعتقد أن الموافقة على تعزيز الصورة النمطية لِمَ يدعونه «نجاح» هراءٌ وتواطؤ في خداع الآخرين، لذلك أرفض وصمي بصور مثالية، وللأسف بعض أصدقائي يريدون مني بكل وقاحة أن أكون كما يرغبون أن أكون.
في نهاية اكتشافاتي لذاتي، أريد أن أطمئنكم: نحن مجتمع يظلم المعاقين ويستغلهم، للأسف كثير من الأقارب والأصدقاء وأبناء البلد يفعلون ذلك، ولكن أحياناً الحروب الصغيرة أهم من الكبيرة وتأثيرها أعمق وأشد مباشرة وأكثر تدميراً، وأنتم تهتمون بتأثيرات الحرب الكبيرة وتتجاهلون تأثيرات الحروب الصغيرة الكثيرة التي تشنونها على بعضكم البعض دون وعي لإرضاء ذواتكم ومصالحها.
وبالنسبة لبقية اكتشافاتي الأخرى، سأتابعها في وقت آخر.
جمال قواسمي
13/5/2020