في منتصف هذه الليلة من العام ٢٠١٤ اخذت السماء ودعائها وابقت في الأرض أوجاعا واشتياقا وجروحا نازفة لمَّا تندمل. في تلك الليلة قرر "أبطال إسرائيل"، الذين حجزوا بطاقتهم لانتخابات قادمة والممهورة بدماء المدنيين الرخيصة في غزة، أن يُنعموا على أحد الطيارين شرف الحصول على وسام الشجاعة، لبطولاته تنفيذا لأوامرهم بقصف حي سكني مكتظ في غزة. نفذت الأوامر بلهفة، تحركت الطائرات وقصفت منزلا مجاورا لمنزل العائلة لتحدث دمارا في الحي، وليسقط شهداء وجرحى ومن بين من سقطوا شهداء في تلك الليلة "البطولية" والدي ذو التسعة والسبعين عاما وزوجته آمال ذات الستين عاما وابنة أخي الطفلة صبا ذات الأربعة أعوام، وهم نيام في فراشهم، وأصيب آخرين من عائلتي بجراح ولحق بالمنزل ضررا كبيرا.
يعلم من أمر ومن نفذ أن مدنيين محميين وفقا للقانون الدولي سوف يسقطون، وأن دمارا كبيرا سوف يلحق بمنازلهم وممتلكاتهم، لم يرمش لأحدهم جفنا أو تحرك ساكنا، فهو أمرٌ آخر يلي أوامرَ سابقة طالت القطاع بطوله وعرضه وزقاقاته وغرف نوم أطفاله، قصفت أبراج سكنية ومحطة الكهرباء اليتيمة ومرافق للصرف الصحي وآبار مياه ومساجد وكنائس وأطفال يلهون على شاطئ بحر غزة ومنازل على رؤوس ساكنيها وشطبت عائلات بأكملها من السجل المدني بل وقصفت العلم الازرق ومن احتمى به ظنا منهم أنه يوفر الحماية، عندما طلبت قوات الاحتلال من مواطنين آمنين إخلاء مناطق واسعة في القطاع والتجأوا لمدارس الأونروا.
لم يُبقِ "أبطال إسرائيل" وقواتها محظورا ولا ممنوعا ولا ما هو ملون، خطوطا حمراء أو أعلاما زرقاء، إلا اعتدت عليه وداسته بأحذية جنودها. تكرر نفس المشهد وبنفس "الأبطال" تقريبا، ثلاث مرات في أقل من ستة سنوات على غزة، في وقت فرضت فيه ولازالت حصارا على بحر وسماء وأرض غزة، وقامت بحساب السعرات الحرارية لإثني مليون نسمة، لتبقيهم أحياء، حيث سمحت فقط، وفق حسابات البيوبولتكس التي انجزها خبراؤها و أمنيوها و انثروبولوجيوها، بدخول ناتج تلك الحسابات مترجما في دقيق وزيت وسكر وما اعتبرته أساسيا يبقي هؤلاء "الأشقياء" ما فوق الموت وما دون الحياة، لثلاثة عشر عاما متواصلة، أبقت الأنوف فوق الماء فلا هم قادرون على السباحة ولا هم قادرون على التنفس.
ما كان لهؤلاء "الأبطال" أن يقوموا بما قاموا به لو خامرهم شعورا، في أي لحظة، بأنهم قد يعاقبون أو يساءلون او يحاسبون، فمن يأمن العقاب حتما يُسيء الأدب، إنهم في الحالة المرضية الأخطر التي يشعرون معها أنهم فوق كل شيء، القانون الذي وضعه العالم المتحضر والأخلاق التي قبلها الجميع، اجماعا على الخير وحماية للكرامة الانسانية ورفضا للظلم والشر.
إن البطولات المدعاة والنياشين الممنوحة على دماء المدنيين وتدمير ممتلكاتهم هي سقوط أخلاقي مدوي وأذىً لا يَلحق فقط بالضحايا وذويهم بل بعموم الانسانية ويُقوض على نحو خطير ومُدرك، مقاصد الاجتماع الانساني في الحفاظ على الكرامة الانسانية المتأصلة وصيانة العدالة وإشاعة السلام.
ما حدث ويحدث في هذا المكان من العالم، يُظهر وبشكل غير مسبوق، تلك العملية المنظمة القائمة على تغييب العدالة والمحاسبة، والتضحية بالمدنيين المحميين وممتلكاتهم وتركهم يواجهون ذلك الشر المنفلت والمدمر. إن العالم الذي قام بتوظيف العدالة والسلام والأمن والرخاء توظيفا نفعيا سياسيا وتبنى شعار " أعطوا السلام فرصة" طوال ثلاثة عقود، لم يُوقف الاستيطان ولا العدوان ولا الحصار ولم يحقق لا رخاءً ولا سلاما، بل أصبحنا أبعد ما نكون عن ذلك، وهو شاهدٌ على ما لحق بالشعب الفلسطيني وأرضه ونظامه السياسي من تفتيت وما لحق بالفلسطينيين من فقر وتدهور غير مسبوق في أوضاعهم الإنسانية.
إن ما ارتكبته وترتكبه اسرائيل، كدولة احتلال، يعيد التأكيد على أنه لا خيار لنا كمدنيين وضحايا سوى المضي قدما نحو العدالة في طريق طويل لا رجعة فيه، وهذه المرة هو طريقنا وحدنا ونحن به سائرون مهما كانت الكلفة ومهما كانت الصعاب، "ولا يحرث الأرض سوى عجولها".
إن العدالة لم ولن تكون انتقاما بل هي قيمة انسانية عظيمة لِنَصَفة الضحايا والمظلومين والمكلومين، بغض النظر عن لونهم أو دينهم أو جنسهم، إننا وفي أشد أوقاتنا وجعا، ظلما واحتلالا وإنكارا لحقوقنا الاصيلة غير القابلة للتصرف، لا نرى بأنفسنا إلا جزءا من جماعة العالم المتحضر التي نرفض ما ترفض من احتلال وظلم وعدوان، ونقبل ما تقبل من عدالة وعودة وتقرير للمصير وكما قال يوما الروائي الفرنسي أناتول فرانس فإن العدالة هي الوسيلة التي يُقطع بها الظلم من جذوره.
طوبى لك يا والدي ولكل الطيبين، عشت عزيزا كريما ومت شهيدا، إن القلب لينفطر على فراقك، فلم تعد الدنيا كما كانت ذات مرة. والدي، أُصدقُ رُوحَك القول معترفا بحسدي لك، إذا كان في الموت حسدٌ، كما يقول الشاعر، فموت الشهداء اصطفاءٌ، فطوبى لك ولهم هذا الشرف النبيل وأحسدك ثانيةً؛ لأنك وهؤلاء الطيبين لا تسمعون ولا ترون هذا القبح الفاجر من عابثينا الذين أدموا قلوبنا انقساما وفرقة، ولا من هؤلاء، ممن صنفوا أنفسهم يوما ما بأُخوَة الدم، ممن يزينون لأنفسهم سيئات أعمالهم، يَبرأون منا ومن ماضينا وحاضرنا ونحن تاج الرؤوس وفخر الأحرار. طاب مرقدكم وسلام لكم وسلام عليكم في الأولين وفي الآخرين.
• مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان والمفوض العام للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان والمقال يعبر عن رأي الكاتب.