تعزيز مكانة الإمارات كمقدمة لتحولات جذرية في الشرق الأوسط..

الجمعة 21 أغسطس 2020 12:42 م / بتوقيت القدس +2GMT
تعزيز مكانة الإمارات كمقدمة لتحولات جذرية في الشرق الأوسط..



بقلم: ميخائيل ميلشتاين

تثبت دولة الإمارات العربية في السنوات الاخيرة نفوذاً متصاعداً في الشرق الأوسط بالعموم وفي العالم العربي بالخصوص. ويدور الحديث عن ذروة ميل تحولت في أثنائه الإمارات من إمارة نفط في هوامش العالم العربي الى دولة ذات نفوذ في بؤر فعل ونزاع مختلفة في العالم العربي والاسلامي، لها صلات وثيقة بلاعبين أساسيين في الساحة الدولية.
يعكس تثبيت مكانة الإمارات في العالم العربي تحولات جذرية في الشرق الاوسط. وعلى رأسها نقل مراكز القوى الاقليمية التقليدية من القاهرة، دمشق، وبغداد – التي غرقت في ظل الهزة في هوة الحروب الاهلية، وتفكك الدولة وانهيار الاقتصاد – الى مجال الخليج الفارسي. في اعقاب «الربيع العربي»، قلّ جدا تأثير الدول التي قادت العالم العربي على مدى عقود عديدة، وتباهت بلقب «القوى الثورية والتقدمية»، وبالمقابل صعد نجم إمارات النفط، التي وقفت على مدى سنوات طويلة في هوامش العالم العربي (وبالتأكيد بالنسبة للنزاع الاسرائيلي – العربي)، والتي كان دورها المركزي الدعم الاقتصادي للأنظمة العربية السائدة، وكذا الفلسطينيين.
الروح الحية خلف عملية تحول الإمارات الى لاعب اقليمي رائد هي زعيم الدولة اليوم، محمد بن زايد، ولي العهد في أبو ظبي (ابن 58). يعد بن زايد أحد اللاعبين المسيطرين في العالم العربي اليوم. فهو يقيم علاقات وثيقة مع رؤساء الساحة الدولية (ولا سيما مع الرئيس الأميركي ترامب)، ويشكل لاعبا اساسيا في المعسكر السني المعتدل. ليس صدفة ان توجته صحيفتا «نيويورك تايمز» و «تايم» احد الزعماء الاقوى في المنطقة، بل في العالم كله، في العام 2019.
لمراكز القوة الجديدة في العالم العربي، وعلى رأسها كما أسلفنا اتحاد الإمارات، مزايا اساسية تختلف عن مزايا القوى التي قادت المنطقة في الماضي:
1. عموم دول الخليج تقوم على اساس مبنى سلطوي وهامش اجتماعي تقليديين، وتساهم في استقرار انظمة الحكم فيها، وتشكل بقدر كبير أساسا لبقائها في عصر الهزة (اي من الأنظمة الملكية في العالم العربي لم ينهر في عصر «الربيع العربي»، وذلك بخلاف جزء كبير من الأنظمة غير الملكية).
2. تفتقد الأنظمة الملكية في الخليج الفارسي للبعد الايديولوجي، وبالتأكيد الثوري، بخلاف ما يسمى «الأنظمة التقدمية» والمحافل الاسلامية في العالم العربي، وهي مؤيدة واضحة للحفاظ على الوضع الراهن.
3. اساس قوة الأنظمة في الخليج الفارسي اقتصادي، وان كان بعضها يطور بالتدريج ايضا روافع نفوذ سياسة، اعلامية، تكنولوجية، علمية، بل عسكرية (فضلا عن السعودية التي كان لها تقليديا نفوذ اقليمي واسع، وللإمارات التي تطور في السنوات الاخيرة نفوذا كهذا، تبرز ايضا قطر التي تتطلع منذ عدة عقود الى تثبيت قوتها في الشرق الاوسط، الى ما يتجاوز بكثير حجومها الديمغرافية والجغرافية).
4. الموقف التاريخي لانظمة الخليج تجاه اسرائيل بخاصة وتجاه النزاع بينها وبين الفلسطينيين بعامة أرق موقف باقي الدول العربية. فنهج تلك الانظمة يعتمد على فكر الواقعية السياسية، وبموجبها يمكن، بل من المرغوب فيه العمل على تسوية سياسية بعيدة المدى مع اسرائيل تشكل على حد نهجهم حجر أساس لاستقرار استراتيجي في كل الشرق الاوسط.
ان تثبيت المكانة القيادية للامارات في المجال العربي يأتي في ظل التعاون الوثيق مع حليفيها المركزيين، السعودية ومصر، اللتين تشاركانها الرؤيا المتعلقة بصورة المنطقة وفي تعريف التهديدات والفرص الكامنة فيها والتمييز بين الاصدقاء، الشركاء الاستراتيجيين، والاعداء. «المعسكر الثلاثي» – الذي تشارك فيه معظم دول الخليج (باستثناء قطر) والأردن، والذي يحظى بتأييد دول شمال افريقيا والسودان، يقوم على ثلاثة مبادئ اساسية:
1. تشخيص مشترك للاعداء، وعلى رأسهم ايران وحلفائها في معسكر المقاومة والمعسكر الشيعي (طهران تعد التهديد الوجودي المركزي من ناحية معظم دول الخليج)، وبعد ذلك تيار «الإخوان المسلمين» في العالم العربي والإسلامي و»داعش».
2. تعريف مشترك للولايات المتحدة كسند استراتيجي (وان كان الموقف من الادارة الحالية في واشنطن شكاكا احيانا، ويترافق وقلقا من عدم الوقوف الكامل الى جانب دول الخليج، اذا وعندما تقف امام تهديدات خطيرة، بخاصة من جانب ايران).
3. وضع مشابه للرئيس الفلسطيني في هوامش جدول الاعمال الاستراتيجي – القومي والاقليمي – في ظل ابداء موقف اساسي ايجابي تجاه اسرائيل التي تعد لاعبا اساس في اطار الصراع ضد ايران.
إن النفوذ المتعاظم للامارات في المنطقة يجد تعبيره على عدة مستويات:
1. السياسي – الاستراتيجي: الى جانب السعودية (وعلى اساس العلاقة الشخصية الوثيقة بين بن زايد وولي العهد السعودي محمد بن سلمان)، تقود الدولتان اليوم «المعسكر العربي السُني المعتدل». ترى هاتان الدولتان نفسيهما كمن يقف في جبهة الصراع العربي مع ايران ومع تركيا اللتين تتعاظم قوتهما على حساب العالم العربي؛ وتقودان المواجهة العربية العامة الحادة التي تمتد منذ ثلاث سنوات ضد قطر (احتكاك يترافق و»حصارا» متواصلا على الامارة المتماثلة مع معسكر «الاخوان المسلمين» وتعد تقليديا عاملا باعثا على التآمر والاضطراب في العالم العربي)؛ وتحاولان العمل على استقرار الانظمة العربية القريبة منها.
2. الامني: بخلاف الامتناع التقليدي لدول الخليج الفارسي عن التدخل العسكري في النزاعات الإقليمية، تبدي السعودية والإمارات في السنوات الأخيرة تدخلا فاعلا في بؤر صراع مختلفة في الشرق الأوسط، بما في ذلك في ساحات توجد خلف «ساحتهما الخلفية» (أي الخليج الفارسي والبحر الأحمر). الحسم في تلك المواجهات يعد في نظر الرياض وأبو ظبي عظيم الأهمية لغرض التصميم الاستراتيجي للمجال الإقليمي. في هذا السياق يبرز التدخل العسكري لاتحاد الإمارات في الصراعات الجارية في اليمن (ضد الحوثيين العاملين بدعم من ايران، ففي حزيران من هذه السنة أعلن اتحاد الإمارات عن وقف تدخله في الدولة) وفي ليبيا (ضد القوات المدعومة من تركيا)، وبشكل محدود اكثر في سورية، العراق، لبنان والصومال. ووجد الجهد العسكري للامارات تعبيرا بارزا له في استخدام القوات الجوية، في ظل التعاون مع السعودية ومصر، واحيانا في التنسيق مع محافل غربية (مثلما في ليبيا).
3. الاقتصادي: المدن المركزية للإمارات، وعلى رأسها أبو ظبي ودبي، أصبحت في العقود الأخيرة المراكز المالية، التجارية، المصرفية والسياحية السائدة في الشرق الأوسط، لها وزنها أيضا على المستوى الدولي. وتستغل الإمارات قوتها الاقتصادية كي تدعم حلفائها، وعلى رأسهم مصر التي تحظى بمساعدة اقتصادية واسعة منذ عقدين.
4. المدني: في السنوات الأخيرة تبدي الإمارات قوة على المستوى المدني أيضا، ولا سيما في مجالات العلم، التكنولوجيا والتعليم. في هذا السياق تبرز المؤسسات الأكاديمية التي تطورت فيه وتحظى بمكانة رائدة في العالم العربي (وتحل هذه بقدر كبير محل مؤسسات التعليم العالي في مصر والأردن والتي كانت حجر جذب للشباب في كل العالم العربي)، وكذا المشاريع التكنولوجية التي تعمل عليها (بما فيها تشغيل مفاعل انتاج الطاقة النووية في تموز 2020، والذي بني في أبو ظبي بالتعاون مع كوريا الجنوبية؛ واطلاق سفينة فضاء الى المريخ في تموز الماضي؛ وتدشين مركز خلايا جذعية إقليمي لزرع مخيخ العظام؛ وكذا استثمار مقدرات كثيرة في التصدي الطبي لفيروس كورونا، ولا سيما المشاركة في محاولات تطوير لقاح، وتوريد عتاد طبي للدول في العالم ممن تضرروا بالفيروس).
ان تعزيز النفوذ الإقليمي لاتحاد الإمارات يشكل ميلا استراتيجيا إيجابيا من ناحية إسرائيل. توجد بين الدولتين علاقات وثيقة في جملة من المستويات في العقدين الأخيرين، الامر الذي خرج الى العلن في اعقاب الإعلان عن تطبيع العلاقات بينهما. ووجدت العلاقات الخاصة تعبيرها في عدة جوانب:
1. التعاون الأمني واسع النطاق الذي في مركزه مشتريات كثيرة لعتاد امني إسرائيلي من قبل الإمارات (ولا سيما في مجال والسايبر).
2. عمل مشترك في مواضيع اقتصادية وتكنولوجية (بما في ذلك الجهد المشترك في الأشهر الأخيرة لتطوير لقاح لـ «كورونا».
3. استضافة علنية (وليست عادية في العالم العربي) لممثلين رسميين ولوفود اقتصادية ورياضية.
4. تأييد علني (وشاذ نسبيا في العالم العربي) من الإمارات لمحاولات ترامب العمل على «صفقة القرن» في اثناء السنوات الأخيرة.
تقف علاقات الإمارات مع إسرائيل غير مرة بخلاف علاقاتها الطبيعية مع مراكز القوى في الساحة الفلسطينية. كقاعدة، للامارات نفوذ محدود جدا في الساحة الفلسطينية مقارنة بلاعبين اقليميين آخرين مثل مصر، الأردن، وقطر. وهي في قطيعة شبه كاملة سواء مع حكم «حماس»، الذي ينتمي لتيار «الاخوان المسلمين»، وكما اسلفنا يعتبر في نظر بن زايد تهديدا، ام مع السلطة الفلسطينية. والقطيعة بين الإمارات ورام الله وقعت بالتدريج في العقد الأخير على خلفية شكاوى بن زايد من «اختفاء» أموال المساعدة التي قدمتها الإمارات للفلسطينيين في جيوب مسؤولي السلطة الفلسطينية، وكذا على خلفية تأييد بن زايد لمحمد دحلان (دحلان يعمل مستشارا للامير في شؤون مكافحة «الاخوان المسلمين»، وينتظر الانخراط في القيادة الفلسطينية في اليوم التالي لابو مازن).
تجسيد بالملموس للرواسب بين اتحاد الإمارات والفلسطينيين جاء فور الإعلان عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل. فقد شجبت السلطة الفلسطينية الخطوة بشدة، وصفتها بانها «طعنة سكين في ظهر الفلسطينيين» وأعادت سفيرها من اتحاد الإمارات، وفي أرجاء الساحة الفلسطينية عقدت مظاهرات احتجاج ضد الإمارات في اثنائها أحرقت صور بن زايد. وقبل ذلك برز احتكاك بين الإمارات والفلسطينيين وقع في حزيران الماضي، في أعقاب قرار الإمارات ارسال مساعدة طبية للسلطة الفلسطينية في ارسالية مباشرة بين أبو ظبي وإسرائيل، توجه كرحلة الطيران الرسمية الأولى في الخط الجوي بين الدولتين واعتبر كمظهر للتطبيع المتزايد بينهما. أثارت الخطوة استياء شديدا في الساحة الفلسطينية، التي كانت في ذروة ازمة حادة مع إسرائيل على خلفية الإعلان عن العمل على الضم، ودفعت الفلسطينيين للإعلان رسميا عن رفضهم تلقي المساعدة.
يشكل تعاظم نفوذ اتحاد الإمارات في العالم العربي ميلا إيجابيا من ناحية إسرائيل. فقوتها الصاعدة تساهم في الجهد الإسرائيلي بلورة معسكر إقليمي ضد التهديدات المشتركة، وعلى رأسها ايران وتساعد في قبول إسرائيل في العالم العربي. ولكن خطوة عظيمة الأهمية لتطبيع العلاقات، والتي ترافقت وإزالة موضوع الضم عن جدول الأعمال الإسرائيلي (على الأقل للمدى المنظور)، لم تؤد حتى الآن الى ابطال الأزمة الحادة مع السلطة الفلسطينية، والتي تتجسد منذ 19 أيار بقطيعة مطلقة بين الطرفين، وتترافق مع ضعف متزايد للحكم في رام الله. صحيح أن إسرائيل حققت إنجازا مهما مع العالم العربي، ولكنها تبقى تواجه مشكلة محتدمة في ساحتها القريبة، من شأنها أن تتطور لتصبح تحديا استراتيجيا – سياسيا وامنيا – في الوقت القريب القادم.
من المحظور ان يؤدي نجاح إسرائيل في تحقيق المفهوم الاستراتيجي الذي يقول انه يمكن تطبيع العلاقات مع العالم العربي حتى دون التسوية مع الفلسطينيين (والذي يوجد في بؤرة الإحباط الفلسطيني)، الى الاستخفاف بالازمة العميقة مع الساحة الفلسطينية. العكس هو الصحيح. على إسرائيل ان تدرس كيف يمكنها أن تساعد الفلسطينيين «للنزول من الشجرة» (قسم كبير من مسؤولي السلطة الفلسطينية ناضجون لذلك، في ضوء خوفهم من ان تضعضع الازمة الحالية استقرار الحكم في رام الله وتؤدي الى «رفع رأس» من جانب «حماس»). لغرض انقاذ الفلسطينيين من التمترس عديم الجدوى في إحساس الظلم الذي احيق بهم، نوصي بالنظر الى إطلاق رسائل متصالحة ومهدئة بين القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية، الى جانب استخدام واسع لإقناع وسطاء خارجيين وكذا حوافز، ولا سيما في شكل مساعدة خارجية، بما في ذلك من الإمارات.

عن موقع «معهد السياسة والاستراتيجية»