أَصْلُ اللُّغةِ العربيَّة… وهل اللّهَجَاتُ العَامّيّة لُغَات؟!

الخميس 20 أغسطس 2020 02:16 م / بتوقيت القدس +2GMT
أَصْلُ اللُّغةِ العربيَّة… وهل اللّهَجَاتُ العَامّيّة لُغَات؟!



وكالات / سما /

اللغةُ هي الإنسان… هي الوَطنُ… وهي ثمَرة العقل وغِراس البَيَان، ولِأنَّ الإنسان شَغوفٌ بالكَشْفِ عن بدايات الأشياء وأصْلِها كانتِ اللُّغةُ أبرزَ ما يَسْتَوقِفُه، وفي الكشف عن أساسِها سبيلٌ إلى إضاءة دربِ تطوُّرِها ومعرفة مواضع إمكانيَّة خدمتِها والاجتهادِ فيها.

النظريات اللغوية عن أصل اللغة عامة

وفي الحديث عن أصلِ اللُّغاتِ عامَّة نظريَّاتٌ كثيرةٌ وآراءٌ مختلِفةٌ، منها ما يُقبَل ومنها ما يُردُّ؛ فمن ذلك قولُهم إنَّ اللغةَ مُحاكاةٌ لأصواتِ الطَّبيعةِ كَزَقْزَقَةِ العصافير، وخَرِيْرِ النَّهر؛ ومنها قولُهم بمُحاكاة الأصوات لمعانيها؛ كأنْ تقتربَ معاني الكلمات التي تبدأ بالحرف نفسِه، أو تتكوّن من الحروف نفسها، من بعضها؛ مثل: (غَيْب، غَيْمَة، غِلّ)، إذ كلّها تنطوي على معنى الخفاء. وهناك نظريَّات أخرى لا تَعْدُو كونَها احتمالاتٍ جزئيةً لا تنطوي مفرداتُ اللُّغةِ كلُّها تحتها. أمَّا نَشْأَة اللُّغةِ وأصلها فقد كان للعلماءُ عندها وِقفاتٌ طويلةٌ؛ إذ قال فريقٌ منهم: إنَّ اللُّغاتِ تَوْقِيفٌ من الله سبحانه وتعالى بإلهامٍ أو وحيٍ أو كلام، مُسْتَنِدِيْنَ في ذلك إلى قوله عزّ وجلّ: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31].

وقال فريقٌ ثانٍ: إنَّ اللغةَ اصْطِلَاحِيَّةٌ، ودليلهم قولُهُ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ [إبراهيم: 4]. وقال فريق ثالث: إنَّ بعضَها تَوْقِيْفِيٌّ وبعضَها اصطلاحي، وفريقٌ آخر من العلماء رأى أنَّ عدمَ الخوضِ في أصْلِ اللغةِ أوْلَى، فَمَع وجود كثير من النظريات اللغوية الحديثة التي تنكر أصل اللغات، وتعدّها من نتائج التطور الإنساني فحسب، يبدو هذا الرأي من الحكمة بشيء، فالخَوْضُ فيه لن يقتصر على جهود علماء اللغة مادام سَيَنْحُو بالحديث نحو الاعتقادات المختلفة عن أصل الكون ونشأته!

أصل اللغة العربية

وإذا ما وَلَجْنا إلى الحديث عن أصل اللغة العربية خاصّةً تبيَّن لنا أنَّها اللُّغةُ الحَيَّةُ التي ما زالت تعابيرُها وتراكيبُها والكمُّ الأكبرُ من ألفاظها مُستعملًا حتّى يوم النَّاس هذا، فعلى الرَّغم من أنَّ لغاتٍ أُخْرَى مثل اليونانية والعِبريّة واللاتينية قد بدأ تَدْوِيْنُها قبل العربيّة إلّا أنّها لم تُحافظ على نفسها نابِضَةً كما حُفِظَت العربيةُ بحفظ القرآن الكريم بمشيئة الله تعالى. ويُذكر أن نشأة العربية كانت في الجزيرة العربية، وقبل ألف عام، وامتدّت رقعة المتحدّثين بها من القبائل البدوية بداية من غرب الجزيرة العربية إلى منطقة بلاد ما بين نهري دجلة والفرات، وإلى جبال لبنان غربًا، وإلى سيناء جنوبًا.

وهي – كما هو معلوم- من اللغات السَّامِيّة، وتُعدّ من اللغات الآفرو-آسيوية، وتلتقي بالعبريّة في أصلهما الكنعاني، حتّى إنّ هناك من وصفهما بالشقيقتين نظرًا لأصلهما وتشابههما في بعض المزايا والجذور اللغوية، لكن هناك من قال إني لأربأ بالعربية عن كونها شقيقة للعبرية، ويكفي أن نقول إنهما ابنتا عمّ! قد يبدو مَهْدُ العربية غائمَ المعالِمِ، فأقدمُ ما يُعرَف منها وُثِّق تاريخُه في القرن الخامس الميلاديّ، لكنَّها في تلك النّصوص؛ أي منذ نُعُومَةِ أظْفَارِها، وُصِفَتْ بالنّضوج والكمال والبَهَاء. على أنَّ العربيّةَ منذ القِدَمِ تُعرف باختلاف لَهجَاتِها، فَمِنْهَا ما هو بائدٌ، ومنها ما بَقِيَ بَقَاءَ أهلهِ، ولعلَّ أعَلَاها وأفْصَحَها وأبْقَاهَا لهجةُ قُريش، الأقوى حضورًا، والأقربُ مَأخذًا؛ وممَّا بَوَّأها هذهِ المكانةَ أفواجُ الحُجَّاج كلَّ عام، إذ فرضتْ نفسَها بانْتِقائِها لكلِّ جميل مُستساغٍ من اللهجات الأخرى، ونَبْذِها لكلِّ هَجِينٍ ثقيلٍ مُسْتَقْبَح. وهنا يحضر السؤال الأبرز:

كيف نشأت اللهجات؟ وهل اللهجات العاميّة المستخدمة في أيامنا لغات؟

نشأت اللهجات العربية نشوءًا طبيعيًا باتّساع الرقعة الجغرافية، فالقبائل العربية العدنانية والقحطانية توزعت بين شمال الجزيرة وجنوبها، ولا بد للمكان من سلطة يفرضها على قاطنيه، ولا بدّ للبُعد من آثارٍ تُجليها اللغة في اللسان، ومع مرور الزمن صار للبلاد العربية أقاليم لغوية مختلفة، فصار لدينا لهجة أهل الشّام، واللهجة الخليجية، والمصرية، والمغربية، والعراقية، وتتميز كلّ لهجة من الأخرى بتبديل حرف مكان آخر، أو إضافة حرف زائد، أو استعمال مجازي مختلف لِلَّفْظِ نفسه، وغير ذلك مما ليس بقليل.

ومع تباعد الأسفار اللغوية غدا للغة العربية مستويان؛ المستوى العالي المتمثل باللغة العربية الفصيحة، وهو المستوى المتعارف عليه في الكتابة والتعامل الرسّمي، والمستوى المحكي المتداول بين الناس والمنقسم على نفسه إلى لهجات كثيرة. وذهب بعض الدارسين اللغويين إلى القول بوجود مستوى وسطي مَحْكيّ بين الفُصحى والعامية، ولعلهم بذلك يقصدون الفصحى التي اعتمدها شعراء الجاهلية في كثير من أشعارهم، تلك التي يكاد القارئ اليوم لا يفهم منها شيئًا، وسمّوها اللغة الفصيحة التي تعتمد السلاسة والوضوح في اختيار ألفاظها، ولعلّ أقرب مثال عليها ما استخدمه شعراء العصر الحديث من ألفاظ رشيقة وقريبة من العامّة، مثل أحمد شوقي ومن عاصره أو قَارَبَه.


لكن هل يعني ذلك أن اللهجات العامية لغات؟!

لا لَيْسَت لُغاتٍ، وهي محض أداة لغوية تواصلية تشكّلت استنادًا إلى اللغة الأصلية، وهذا الأمر حاضر في اللُّغات عامّة، فاللهجات المحكية تحذف من حروف الكلمات المستعملة بكثرة، أو تقرّب مخارج بعضها؛ للتَّخُفُّف والسرعة وسهولة النطق أحيانًا، ومردّ ذلك إلى كثير من العوامل الّنَفْسية والجَمْعِيّة، والقومية أو العِرقيّة أو المناطقية في أحيانٍ أخرى، ناهيك من العوامل الجغرافية والتاريخية، والآثار البِيْئِيّة.

دعوات إحلال العاميّة محلّ الفصحى في الكتابة والتّواصل

ولعلّ أعجب ما يطالعنا في الآونة الأخيرة دَعَاوى استخدام اللهجات العاميّة في التواصل الرّسمي والكتابة، وادّعاء أنها لغات لا لهجات، وقد يبدو ذلك بَيِّنَ الغرضِ حين يصدر عن مستشرقين ولغويين حَدَاثِيّين ضلّت نُوقُهم طريقها وتعثّرت حتى وجدوا أنفسهم في قَاعٍ من سَرَابٍ لا يَلْوُونَ على شيء سوى بِدْعةِ التفرّد والابتكار من العدم! لكن العجب العجاب حقيقة حين يكون الدّاعون إلى ذلك من أبناء جلدتنا وحاملي القومية العربية على هويّاتهم، فمنهم من دَعا إلى ترك التعبير بالعربية الفصحى في وسائل الإعلام، ومؤسسات الحياة الرّسمية عامة؛ لصعوبتها ووُعورتها وابتعادها عن مواكبة الحداثة اللغوية التي نحتاجها في هذا العصر، ومنهم من ألّفَ كُتُبًا عن قواعد العاميّة، ومنهم من بات شاعرًا وأديبًا لكنْ باللهجة العامية، وله متابعون محبّون لما يُسمّيه أدبًا! وفي هذا أربأ بنفسي عن ذكر الأسماء.

أَلَقُ العربيّة باقٍ

للعربيّة خصائصُ ومزايا تفرّدَت باجتماعها فيها عن سواها من اللُّغات الأخرى؛ إذ تَكْمُنُ بلاغتُها في مزيّةِ الإيجاز والتَّكثيف، وتُدْهِشُكَ مُرُونَتُها في مزيَّةِ الاشتقاقِ والتَّعريب، وتُبْهِرُكَ باتِّساعها إذا ما تعرَّفتَ إلى مزيَّة التَّرادف والمُشْتَرَك اللَّفظيّ، ناهيك من عَصَبِها المتين المتَّكِئ على مزيَّة الإعراب، وقوَّة حضورها بما في حروفِها وتراكيبِها من جَزالةٍ ودقَّة في التَّعبير. وفي ذلك كلِّه لا أَجِدُ أصْدَقَ من قول الشَّاعر إبراهيم طوقان: "فَيَا لُغتي تِيْهِي بِجَبْرٍ عَلى اللُغَى".

ولا رَيْبَ أنَّ حفظَ اللغة العربية مَنُوطٌ بحفظ القرآن الكريم، فلولاه ما بَقِيَتْ بفصاحتها وسلامتها وأَلَقِها مُتداولةً ما بَقِيَتِ السَّموات والأرض، ولولاه ولولا جنود سخرها الله لحفظ اللغة المختارة ما كانت العربية لتصمد أمام عِداء لا يوفر طاقة للنخر في كيانها، فالحمد الطّيّب الواسع للكبير المُتَعَال، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9].