طالما ادعت حركة الهاغاناه الصهيونية (نواة الجيش الإسرائيلي) أنها عارضت العمليات الإرهابية التي ارتكبتها منظمتا “الايتسيل” و”الليحي” الصهيونيتان قبيل النكبة، لكنّ وثيقة تاريخية جديدة تنسف مزاعمها، وتظهر مجددا أنه لا فرق بين تلك الحركات.
وكشف المؤرخ الصحافي الإسرائيلي عوفر اديرت في صحيفة “هآرتس” عن مستند من الأرشيف عن علاقة الهاغاناه بتفجير فندق الملك داوود في القدس عام 1946. ويكشف عن تقرير لمخابرات الهاغاناة تم توزيعه داخل المنظمة بعد ثلاثة شهور من التفجير المروع الذي تسببب بقتل العشرات قبل 74 عاما، ويظهر أن الهاغاناة دفعت 70 ألف ليرة لمنظمة “الايتسيل” مقابل القيام بعملية تفجير الفندق.
ويوضح أديرت أن طالبا جامعيا يدعى أفيحاي أفرهام، يدرس في جامعة بار إيلان الإسرائيلية، قد عثر على الوثيقة داخل أرشيف “الهاغاناه” والتي تبيّن أنها قامت بتمويل العملية الإرهابية التي سببت أكبر عدد من القتلى ضمن العمليات التي شهدتها البلاد منذ بدء الصراع.
ويستذكر أن مناحم بيغن هو قائد منظمة “الايتسيل” وقتها ولاحقا انتخب رئيسا لحكومة الاحتلال عام 1977، وبذلك أطاح للمرة الأولى بحزب “العمل” عن سدة الحكم.
ويعقّب الطالب الجامعي على الوثيقة بنعته إياها بالاكتشاف المثير الذي يدلل على وجود أمور خفية من تلك الفترة. ويستدل من الوثيقة حسب أديرت أن الاتصالات بين الهاغاناه والإيتسيل بدأت بعدما رغبت الأولى بالانتقام من الانتداب البريطاني بعد حوادث “السبت الأسود” في 29.06.1946، وخلالها قامت السلطات البريطانية بعمليات ضد الاستيطان الصهيوني في فلسطين ومحاولة لجمه.
لكن رجال الهاغاناه رفضوا تنفيذ العملية لعدم تدربهم من قبل على مثل هذه العمليات، معتقدين أنها تحتاج لقوة كوماندوس، مما دفع قيادة الهاغاناه للتوجه لـ”الإيتسيل “.
لقاء الهاغاناة مع بيغن
تتابع الوثيقة” “في الثامن من يوليو/ تموز 1946 تم نقل بعض رجالات الهاغاناه وهم معصوبو العيون إلى لقاء مع مناحم بيغن الذي اشترط تنفيذ العملية بدفع 100 ألف جنيه فلسطيني، وبالتالي تم التوافق بينهم على 70 ألف جنيه، شريطة ألا تؤدي العملية لضحايا. وفي مثل هذا اليوم قبل 74 عاما (22 من تموز/ يوليو 1946) قامت منظمة “الإيتسيل” بتفجير الفندق وهو أحد رموز الحكم البريطاني في البلاد، وفيه أقام موظفون كبار في حكومة الانتداب. وتمت العملية بعدما تسلل عناصر “الايتسيل” للفندق وهم متنكرون بلباس نادلين عرب، فدخلوا للمطبخ وبحوزتهم طناجر حليب كبيرة محشوة بـ350 كيلوغرام ديناميت مجهزة للتفجير بواسطة صاعق ذاتي. وبعدما أودعوها داخل الفندق هربوا من المكان، ولم يتم إخلاء الفندق رغم تلقيه مكالمة تحذير هاتفية، وفي الانفجار انهار القسم الجنوبي من الفندق بكل طوابقه السبعة، مما أدى لقتل 90 شخصا منهم بريطانيون وعرب ويهود”.
ويوضح أديرت استنادا للوثيقة الأرشيفية، أن عدد القتلى الكبير تسبب بنشوب خلاف بين الايتسيل والهاغاناه التي رفضت بالتالي تسديد المبلغ المتفق عليه، فهددت الايتسيل بفضح الاتفاق وعندئذ تم تسديده. ويبيّن أديرت أنه رغم عدم وجود دعم لهذا الرواية من أي مصدر آخر، لكنها تستبطن نواة الحقيقة حول تفجير الفندق ودور الهاغاناة فيه.
90 قتيلا
أديرت أوضح أيضا أن من أصدر التعليمات لتنفيذ العملية الإرهابية، كان موشيه سنيه، القائد العسكري للهاغاناه الذي كتب رسالة لمناحيم بيغن قال فيها: “عليكم تنفيذ العملية بالسرعة الممكنة في ملونتشيك (لقب فندق الملك داود في القدس)”.
ويتابع المؤرخ الصحافي الإسرائيلي عوفر أديرت: “بعدما تبين عدد الضحايا الكبير في العملية الإرهابية، تنصلت الهاغاناه منها، بل بادرت لإدانتها في بيان عبرت فيه عن مشاعر الغضب والاشمئزاز من هذه العملية غير المسبوقة التي نفذها مجرمون”.
أما منظمة ” الايتسيل ” فانتظرت عاما، وعبرّت عن إدانتها لـ”نفاق وكذب” الهاغاناه. في المقابل ينقل أديرت عن مؤرخين إسرائيليين قاموا بدراسة تاريخ المنظمات الصهيونية، قولهم إنهم لم يعثروا على دليل يؤكد تورط الهاغاناه بالعملية، زاعمين أن الحديث يدور عن “أخبار كاذبة” من فترة الانتداب.
ويوجه المؤرخ الإسرائيلي بيلغ ليفي إصبع الاتهام لصحافي يهودي من أصل روسي يدعى جورج مارينتس الذي كتب من القدس تقارير لصحف بريطانية وفرنسية ووصفته صحف عبرية في تلك الفترة بالمعادي للصهيونية الذي يختلق قصصا وافتراءات ضد الحركة الصهيونية ومشروعها في فلسطين.
وتنوه “هآرتس” أن الصحافي المذكور وبعد نشره تقريرا عن تورط الهاغاناه في العملية الإرهابية غادر البلاد بشكل مفاجئ ولاحقا نشر في صحيفة “ديلي ميل” البريطانية إنه اضطر للمغادرة بعدما تناهت لمسامعه أن الهاغاناه أصدرت حكما بقتله وقامت بإنذاره كي يغادر.
ويتابع: “تمكنوا من إرسال أحد عناصرهم لبيتي في القدس فقرع جرس الباب ولما فتحت شاهدت جنديا يشهر بندقية في وجهي فيما قامت فتاة مرافقة له تترجم لي قرار الحكم بالإعدام ضدي وقد سمعتها تقول لي بإنجليزية ركيكة: أنت تنشر مواد سيئة جدا علينا”.
لماذا يتسترون على الأرشيف؟
كما كتب جورج مارينتس أيضا أن ضابطا بريطانياً أبلغه بأنهم لن يسمحوا لك ببقائك هنا، وإن بقيت سيقتلونك. وتابع: “أدركت عندئذ أن وجودي هنا لم يعد ممكنا فغادرت”.
وفيما يشكك مؤرخون إسرائيليون بادعاء تورط الهاغاناه بتفجير فندق الملك داود، فإن الطالب الجامعي أفراهام الذي يعد رسالة ماجستير جامعية عن النشاط الاستخباراتي الصهيوني في فترة الانتداب يرجح أن الوثيقة التي عثر عليها في الأرشيف صحيحة ومصدقة.
وتابع في تصريح لـ”هآرتس”: “من المتوقع أن تنفي الهاغاناه ذلك مثلما أنها نفت أيضا أنها كانت على علم مسبق بالعملية، ولا بد من التذكير أن هذه العملية تحتاج لتمويل كبير”.
ويتساءل أفراهام بالقول: “في حال كانت هذه الوثيقة كلاما فارغا، فلماذا احتفظوا بها سراً لمدة زمنية طويلة جدا داخل الأرشيف؟ ولماذا ما زالت وثائق كثيرة ترتبط بتفجير فندق الملك داود طيّ الكتمان ويحظر نشرها؟”.