ربما اختلط الأمر على البعض، بخصوص اكتشاف بعض المندسين في حماس، المتخابرين مع الإحتلال، أو الذين انحرفوا من داخل أطرها. فقد تحولت المسألة بالتضخيم، الى مادة للتوظيف الإعلامي، إما لوضع مشروع المصالحة الفلسطينية جانباً، أو لاستغلاله في سياق التجاذبات الإقليمية مثلما تُستغل في هذا السياق؛ القصص والإخفاقات الداخلية داخل هذا البلد أو ذاك. لكن مسألة أمن المجتمع الفلسطيني ومناعته، ووعيه الجمعي، لا تحتمل العبث، وبالتالي إن الموقف الوطني حيال اكتشاف نفرٍ من العملاء، من أي طيف، له محدداته ولا يصح تجاوزها، وعندما تتجاوزها وسيلة إعلام عربية أو فلسطينية، فإنها إما تفعل ذلك عن سوء نوايا تجاه الشعب الفلسطيني كله، أو عن جهل بمقتضيات الحرص على أمن الشعب الفلسطيني ومقاومته ومجتمعه. فالأصل والفرع، أننا لا نربح شيئاً من استغلال هكذا احداث للنيل من وطنية أو شرف مجاميع وطنية، سواء كانت داخل حركة حماس أو غيرها، وأخذها بالجملة، متجاهلين حقيقة أن عميلين أو ثلاثة أو عشرة أو عشرين، لا يحكمون على ألوف المقاومين والشرفاء، وهذه بديهة ليست منّة من أحد، ولا مجاملة ولا هي محاججة إعلامية تتوسلها حماس. في الوقت نفسه، إن الوفاق الوطني هو وحده الذي يساعد على أخذ العبرة وعلى العلاج الجذري وعلى سد الثغرات. فقد آلتمنا منذ بدء السنوات العجاف، لغة التعميم والتخوين، التي شملت حركة فتح بالجملة. وكان لذلك المنطق من يروجون له من المتفقهين والخطباء. أما اليوم، فإن طرفي الخصومة، اللذين لم يتقدما خطوة واحدة في مشروع المصالحة، قد استوعبا الدرس واستقيا العبرة، وأدركا إن أحداً لن يستطيع شطب أحد. لكن المستفيدين من الإنقسام يعاندون.
من هذه الحقيقة ننطلق الى القول دون تردد وبلا مواربة، إن الحركة أو الفصيل الذي يكتشف الإختراقات فيه، ويعلن عنها، يكون قد أدى واجبه، بطريقة افضل ممن لا يكتشفون اختراقاتهم ولا يعلنون عنها. ثم إن الفصيل الذي يتعرض للاختراق من أطرافه، أو من جوار كتلته الصلبة، هو الذي يكون هدفاً للعدو بعمل استخباري مكثف، بحكم أن أحواله أسلم بكثير من أحوال غيره المنشغلين بعمل أمني مكثف ضد اطراف فلسطينية وطنية تطالب بالعدالة واستعادة المؤسسات. فالإستهداف بحد ذاته، لحماس أو لغيرها، شهادة لا يستطيع أحد التقليل من شأنها وأهميتها.
مع ذلك كله، نأمل أن يكون حادث اكتشاف المندسين، سبباً لوقفة موضوعية فلسطينية مع الذات، يشارك فيها كل صحيحي النوايا وصحيحي البوصلة، ممن يأسفون ولا يبتهجون لاكتشاف عميل لكي يشمتوا في حدوث الإختراق. فالعبرة تقتضي أن يعمل الوطنيون على تحصين المجتمع، وتوحيد الجهود لتحسين أحوال الناس، ورفع منسوب الثقافة الوطنية وإنفاذ القانون، وإعادة الإعتبار للبُعد الأمني للسياسة وللمقاومة. فالراغبون في إدامة الخصومة وإبقاء الجرح مفتوحاً، لن يقدموا للشعب الفلسطيني لا الحل الإجتماعي ولا الحل السياسي ولا إخراج الناس من مأزق حياتها ومعيشتها، ولن يتقدموا خطوة واحدة لتحقيق أي هدف.
نحن في التيار الوطني الإصلاحي ومن قلب حركة فتح، نتوخى خلق أفضل المناخات التي تساعد طرفيْ الخصومة على تحقيق المصالحة وبناء صرح الوفاق الوطني. وفي الواقع ليس الطرح طرحنا أصلاً، وإنما ما نقوله هو جزء مما نصت عليه اتفاقات المصالحة التي وقعتها الفصائل، وأحدها ـ في العام 2011 ـ فيه تفصيلات لم تساعدنا الأحوال على الوصول اليها. إذا، فمن يتأخر لن يؤخرنا معه، ومن يؤجج الخصومة فليهنأ بها وحده، ومن أسعدته الإختراقات ليستمتع بها براحته. إن للمصالحة الوطنية خصوم معلومون في الداخل الفلسطيني والخارج الإقليمي، وهم يتوزعون على اتساع المحاور، ولا شأن لنا بهم. فأية خطوة على طريق الوئام الوطني، تمثل نوعاً من الإستجابة الفعلية لنداء المصالحة الوطنية، وعملاً من أعمال الإمتناع الشعبي والنخبوي ضد صفقة ترامب ـ نتنياهو، وشكلاً من أشكال التهيؤ الجدي لمقاومة مشروعات الضم.
هذا هو موقفنا، الذي لن يستطيع "مشايخ الخارج" زحزحته، ولن يستطيع تشويهه إعلام الشاشات الزرقاء بكل العناوين، ولن ينال منه كيديو الداخل المتربحون من الإنقسام!