فلافل أبي أحمد المدهون والسر المكنون ...
ذاع صيت الرجل في مخيم الشاطئ وانتشرت شهرته لتجوب قطاع غزة كصاحب محل فلافل، لا زال طعم الفلافل ونكهته الزكية على ألسنة أهل المخيم كباراً وصغاراً حتى الآن، كنا نشتاق لفلافله ونحن في بلاد الغُربة، وإذا ما رجع الغُيَّاب من جامعاتهم أو وظائفهم لقضاء إجازة الصيف في المخيم بين أهلهم، سألوا عن فلافل أبي أحمد، وما أن يمروا بدكانه صباحاً أو مساءً، سال لعابهم متأثراً بنكهة الفلافل المميزة، فهذا الفلافل ماركة مسجلة بإسم أبي أحمد المدهون.
ولد شكري أحمد عبد الرازق المدهون في مدينة المجدل قضاء غزة في العام 1930م.، نما وترعرع هو ثلاثة إخوة وأخت واحدة في بيت من بيوتها، وتعلم حروف الأبجدية الأولى فيها، وفي شبابه تعلم على النول (النسيج اليدوي)، حيث اشتهرت المجدل بصناعة النسيج.
إثر نكبة فلسطين في العام 1948م. وعندما هُجِّرت المجدل، كانت وجهة المجدليون (المجادلة) قطاع غزة، كباقي المُهجَّرين من قرى جنوب فلسطين سكنوا مخيمات اللآجئين في القطاع، وسكنت عائلتة مخيم الشاطئ، بيوت القرميد البسيطة.
في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين سافر الشاب اليافع "شكري" إلى المملكة السعودية ليعمل على النول هناك، لكن رحلته تلك لم تدم طويلاً ، إذ عاد إلى غزة، ليرتبط بشريكة حياته آواخر الخمسينيات، وليبنيا أسرة كريمة، فقد رزقهم الله من الأبناء اربعة، أحمد وحمدي وحمادة وحسام، وبنتين، وليكتسب اسم الشهرة فيما بعد من خلال اسم ابنه البكر أحمد والذي توفاه الله طفلاً ابن العشرة ربيعاً.
تعلم أبو أحمد صنعة الفلافل على يد ابن أخيه فاروق محمد، الذي تخرج مهندساً زراعياً، وليسافر إلى المملكة السعودية، تاركاً محل الفلافل وسر المهنة لعمه أبو أحمد، والذي بدوره طور نكهة ومذاق خلطة الفلافل، التي كما نعرف مكوناتها الحمص والبصل والبقدونس وبهارات خاصة، بالإضافة إلى السر المكنون، الذي أضافه أبو أحمد لخلطة الفلافل، وأكسبته النكهة والطعم المميز، كنا نميِّزه عن غيره من فلافل الآخرين في المخيم أو المدينة، وأسر لي ابنه "حمادة" أن ذاك السر أخذه عن أبيه وأوصاه بأن يحافظ على زكاوة وطعم الفلافل، وأن لا يغش أو يبدل بمكونات ومعايير الخلطة.
وكعادة الأسر التي تمتهن صناعة المأكولات تتعاون الزوجة والرجل في ذلك، فكانت أم أحمد تساعد زوجها في تحضير خلطة الفلافل في بيتهم الملاصق للدكان، حيث كانت الدكان (بقالة صغيرة) غرفة من غرف بيتهم المطل على شارع متسع قليلاً، وبعد سنة السبعين، بعد طوق الشهر الشهير على الجزء الغربي من مخيم الشاطئ، أخذت سلطات الاحتلال الاسرائيلي بهدم الشوارع بذريعة توسيعها وانشاء السوق الجديد في ذلك الوقت (الحالي)، لتصبح دكانة أبي أحمد على الشارع العام المطل على السوق الجديد ...
تميَّز أبو أحمد بالمثابرة والأخلاق الحميدة، وكان مواظباً على صلاته وصيامه ومعاملة الناس بالطيب والاحترام، فكان معروفاً لدى كل الناس، حتى بعد أن توسع المخيم ليمتد بأهله إلى حي الشيخ رضوان، ظل الناس يأتونه خصيصاً ليحظوا بفلافله، وكان الناس من خارج المخيم إذا ما مروا بدكانه، نادتهم نكهة فلافله الخاصة وشهرته الممتدة باتساع القطاع.
من المواقف المشرفة لأبي أحمد، حيث كانت دوريات جيش الاحتلال في سنوات الانتفاضة الشعبية الكبرى، والتي اشتعلت في العام 1987م. يأمرون المارة أو السكان لمسح الشعارات عن الحيطان أو بإطفاء إطارات الكاوتشوك المشتعلة في شوارع المخيم الرئيسية في هذا التقاطع أو ذاك أو في الميادين الرئيسية، وذات مرة طلب أحد جنود الاحتلال من أبي أحمد هويته الشخصية، وليطفئ إطارات الكاوتشوك المشتعلة بالقرب من دكانه، فرفض أبو أحمد ذلك، ولم يعره أي اهتمام، واستعاد هويته دون تلبية أمر ذاك الجندي.
بعد عودتي إلى الوطن في نهاية يوليو/ تموز 1995م. وما أن ذهبتُ إلى حارتنا القديمة في المخيم ، حيث لا بدَّ من المرور من أمام دكان أبي أحمد ولأستعيد ذاك المذاق والطعم اللذيد والخاص بفلافل أبي أحمد. لأستذكر طفولتي وطريقي إلى مدرستي يوم كنتُ وزملائي من أبناء حارتنا نمر من أمام دكانه ... إنها الذكريات الجميلة رغم بؤس الحال وضنك حياة المخيم.
أبو أحمد الإنسان الطيب، بعد وفاته، رُفعت كارمة على واجهة المحل، كُتب عليها: "محل المرحوم أبو أحمد المدهون"، وأنتَ تمر بدكانه في شارع سوق المخيم لسان حالك يقول: هنا أبو أحمد.
في يناير لسنة 2000م. تصعد روح أبي أحمد إلى خالقها ولتلحق به أم أحمد سنة 2006م. رحمهم الله وأسكنهم جنات النعيم.