دحلان وحماس:من العداء إلى البراغماتية السياسية..د. أحمد يوسف

الخميس 23 يناير 2020 12:46 م / بتوقيت القدس +2GMT
دحلان وحماس:من العداء إلى البراغماتية السياسية..د. أحمد يوسف



تعود خصومة السيد محمد دحلان مع الإسلاميين إلى بداية الثمانينيات، حيث كان التنافس شديداً على اثبات الحضور والفعالية بين طلاب الشبيبة الفتحاوية وشباب الإخوان المسلمين داخل حرم الجامعة الإسلامية. لا شكَّ أن تلك السنوات كانت تمثل للإسلاميين فرصتهم للظهور كقوة اجتماعية حركية لها رؤية فكرية مغايرة تجاه آفاق الصراع والمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، وهي تعتبر أن الجامعة الإسلامية هي أحد أهم منابرها للتعبئة والحشد بعد شبكة المساجد الواسعة الانتشار في قطاع غزة. 

خلال فترة السبعينيات كانت التنظيمات اليسارية أكثر ثقافة ووعياً سياسياً من الإسلاميين، ولديهم أفكار ثورية وخلايا عسكرية تمثل الذراع المقاوم للاحتلال، في حين كانت حركة فتح تشكل الحالة النضالية التي قدَّمت نفسها باعتبارها الحركة التي تقود المشروع الوطني الفلسطيني في التحرير والعودة. 

من الجدير ذكره، أن حركة فتح التي خرج الكثير من قياداتها من رحم حركة الإخوان المسلمين في نهاية الخمسينيات، إضافة إلى شخصيات فلسطينية وطنية كانت تقيم في المخيمات أو تعمل في بعض الدول العربية، وخاصة الخليجية منها كالكويت وقطر، لم تكن في إطار ما تطرحه – آنذاك - حركة ذات رؤى أيدولوجية تُبنى عليها عقلية كوادرها. ولذلك، بقي المشهد النضالي أن فتح هي "أم الجماهير"؛ الأم الرؤوم والمثابة الثورية الآمنة للكل الفلسطيني، وهي حركة ساحتها مفتوحة لكل أصحاب الأفكار والأيدولوجيات طالما أن الجميع محكوم باتجاهات البوصلة الفلسطينية ووجهتها في الكفاح المسلح ضد الكيان الصهيوني الغاصب للأرض والتاريخ والمقدسات. 

في مطلع الثمانينيات كان دحلان شاباً في مقتبل العمر وقد التحق كطالب في الجامعة الإسلامية، وكان أحد نشطاء الشبيبة الفتحاوية إن لم يكن رجلها الأول بعد مؤسسها القيادي الفتحاوي عبد العزيز شاهين. كان دحلان الطالب بكلية التجارة هو رأس الرمح في الصراع بين الشبيبة والتيار الإسلامي في الجامعة. نعم؛ كان أبو علي شاهين (رحمه الله) بمثابة الأب الروحي للطالب محمد دحلان، وكان بتجربته النضالية الواسعة في سجون الاحتلال من يمد تيار الشبيبة في الجامعة بالأفكار وأدبيات المواجهة والتنافس مع الإسلاميين، وهو الأمر الذي أعلى من وتائرها، ودفع بالكثيرين من الطلاب للدخول في اشتباكات تجاوزت لغة التشكيك والاتهامات، عبر البيانات والنشرات المتبادلة إلى الضرب بالأيدي المُسلحة بالعصي والجنازير الحديدية والسكاكين، لتكثر بذلك الإصابات وتسيل الدماء، وتُحتقن النفوس بأجواء العداء والكراهية والتربص، والتي أدت إلى اغتيال د. إسماعيل الخطيب (رحمه الله)؛ رئيس قسم اللغة العربية  بالجامعة الإسلامية في 17 يناير 1984. 

في الحقيقة، كانت سنوات الصراع والتنافس على المكانة وحالات التشنج والاحتقان التي اصطبغت بها فترة الثمانينيات هي من غذَّى دحلان - وغيره من رجالات الشبيبة - بالمواقف السلبية تجاه الإسلاميين، وإن كان جهاز الشاباك الإسرائيلي قد قام باعتقال دحلان وعدد من طلاب الشبيبة في أعوام 83- 1984 على خلفيات نضالية، ثم قام بترحيله عام 1968 إلى الأردن، حيث انتقل من هناك إلى مصر، والتي قامت بدورها بإبعاده إلى العراق لأسباب تتعلق بتهريب السلاح إلى الفدائيين في قطاع غزة. 

في العراق كان هناك أبو على شاهين وعدد من قيادات الشبيبة الفتحاوية، حيث أعيد بناء هيكلية الشبيبة والتي كان لدحلان مكان في قيادتها، ثم كان الانتقال إلى تونس حيث حظي دحلان بموقع متقدم في قيادة القطاع الغربي، والذي كان له دور كبير في فعاليات انتفاضة الحجارة. وبعد اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) في 1988، آلت قيادة القطاع الغربي إلى هايل عبد الحميد (أبو الهول)، والذي تمَّت تصفيته على يد أحد عناصر المنشق عن فتح صبري البنا (أبو نضال) في يناير 1991.. وعليه؛ تسلم ياسر عرفات قيادة الغربي وتقاربت خطوط العلاقة والصداقة بينه وبين دحلان، الذي أصبح بالنسبة إليه هو "رجل المهمات"، حيث أوفده إلى ليبيا لتجميع صفوف كوادر الشبيبة الفلسطينية هناك، وخلال فترة المفاوضات التي أعقبت مؤتمر مدريد في نهاية أكتوبر 1991 كان لدحلان دور يلعبه خلف الكواليس.  

لم يتوقف الصراع بين الإسلاميين وحركة الشبيبة الفتحاوية، والتي استمرت مناكفاتها خلال فترة انتفاضة الحجارة التي انطلقت في الثامن من ديسمبر 1987، ولكن أذيال خلافات الماضي أعادت الصراع بين الطرفين للتنافس على مشهد تأكيد الحضور، والبرهنة بقوة على إثبات الوجود، عبر البينات والنداءات المختلفة لكل منهما. 

مع توقيع اتفاقية أوسلو في 13 سبتمبر 1993 بالعاصمة الأمريكية واشنطن، أعربت التيارات الإسلامية ومعسكر اليسار عن رفضهم لها، وتبنى الإسلاميون سياسة العمل على إفشالها. في العام 1994، تمَّ الإعلان عن قيام السلطة الفلسطينية وبناء مؤسساتها الوطنية وتشكيل أجهزنها الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة. حاول الرئيس ياسر عرفات (رحمه الله) استمالة الإسلاميين إلى جانبه، ولكن الموقف الذي تبنته حركة حماس كان هو رفض المشاركة في انتخابات السلطة أو الدخول في أي من تشكيلاتها الحكومية. ورغم كل المقاربات واللقاءات التي أجراها الرئيس عرفات، إلا أن المصالحة المنتظرة بين حركة فتح والحركة الإسلامية لم تتحقق، وجاءت انتخابات 1996بدون مشاركة الإسلاميين فيها، بل إن حزب الخلاص الوطني الإسلامي؛ الواجهة السياسية لحركة حماس، سرعان ما استعرت بداخله الخلافات واستشرت بين القيادات، الأمر الذي أدى إلى شطبه أو تهميشه من الناحية العملية. 

بعد الانتخابات التشريعية التي جرت في مناطق السلطة الفلسطينية وقاطعتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، وفازت فيها حركة فتح بنصيب الأسد، لم تهدأ ساحة الصراع الداخلي، حيث ظلت حركة حماس تمارس عملها العسكري ضد الاحتلال، مما أكسبها الكثير من المكانة والتقدير والاعجاب في الشارع الفلسطيني، في ظل تعثر السلطة الوطنية عن تحقيق طموحات الشعب الفلسطيني بإنهاء الاحتلال، واستمرار الغطرسة الإسرائيلية باستهداف قيادات حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وهو ما أدى إلى تصعيد رد المقاومة وقيامها بعمليات استشهادية أوجعت الاحتلال، وأشفت صدور شعبنا الموجوع بالتنكر الإسرائيلي لسيادته وكرامته وحقه في تقرير المصير. 

لا شكَّ أن هذه العمليات العسكرية الكبيرة لحركة حماس والجهاد الإسلامي قد زادت من تفاقم الأوضاع مع السلطة الوطنية، والتي كانت - بحسب اتفاق أوسلو – مضطرة للالتزام بالتنسيق الأمني مع دولة الاحتلال، الأمر الذي أوقعها في دائرة الاتهام بالعمالة والخيانة من قبل التيارات والكوادر الإسلامية.       

ومع نجاح المقاومة في الرد والانتقام، أصبحت حركة حماس هي الواجهة الأكثر تأكيداً وتأثيراً في التعبير عن حضورها الجماهيري وقوة شكيمتها في مشهد الجهاد والفعل المقاوم. 

في تلك الفترة من المواجهات مع الاحتلال، كان العقيد محمد دحلان هو الرجل الأول في المشهد الأمني الفلسطيني، حيث كان يقود جهاز الأمن الوقائي؛ المكلف بوقف مثل هذه العمليات العسكرية ضد الاحتلال، الأمر الذي أوقعه مرة ثانية في دائرة المواجهة مع الإسلاميين. ورغم حرص الرئيس ياسر عرفات ألا يقطع "شعرة معاوية" في العلاقة مع حركة حماس، إلا أن التوتر والتصعيد ظل قائماً، واستمر حتى العام 2001 مع انتفاضة الأقصى. 

في الحقيقة، أدرك الرئيس عرفات (رحمه الله) أن إسرائيل تتلكأ وتماطل وتتهرب مما عليها من استحقاقات بموجب اتفاق أوسلو، وأن الحلم الفلسطيني بدولة حرة ومستقلة على حدود الرابع من حزيران 67 قد لا يتحقق، فغض الطرف عن بعض عمليات المقاومة، وقيل إنه أمر بعض أجهزته بمدها سراً بالسلاح، وإيواء بعض عناصرها من المطلوبين أمنياً لإسرائيل. 

شكلت فترة رئاسة العقيد محمد دحلان لجهاز الأمن الوقائي لحوالى سبع سنوات حالة اشتباك وتوتر مع الإسلاميين بشكل عام. 

غادر دحلان الملف الأمني، وشارك في أكثر من جولة مفاوضات، وأصبح حاضراً في الكثير من المشاهد السياسية مع الرئيس أبو مازن إلى أن جاءت الانتخابات التشريعية في يناير 2006، والتي نجح فيها دحلان كنائب عن حركة فتح، إلا أن الفوز الكاسح لحركة حماس أعاد دحلان إلى ساحة العداء والمواجهة مع الإسلاميين بعد توعده بترقيصهم "خمسة بلدي"!! . 

في يونيو 2007 وقعت الأحداث المأساوية، والتي راح ضحيتها المئات من كوادر فتح وحماس، واتهمت حماس بأن دحلان ليس بعيداً عنها بالرغم من وجوده – آنذاك - خارج البلاد للعلاج!! 

باختصار.. حصل الانقسام الذي كان لشعبنا بمثابة المحنة أو الكارثة الوطنية، حيث فشلنا جميعاً في تجاوز أخطائه. سنوات طويلة مرت، اعقبتها صراعات داخل ساحة فتح أدَّت إلى عزل دحلان ثم فصله من الحركة بطريقة رأى فيها البعض أنها جائرة وليست ديمقراطية، وأنها تمَّت بأساليب غير قانونية، حيث فهم منها الجميع أنها محاولة من الرئيس أبو مازن لإقصائه من مشهد الحكم والسياسية؛ لأنه كان يمثل الرجل القوي داخل حركة فتح، والذي يشكل تهديداً كبيراً لسلطة الحاكم الفرد، الذي تكاثرت حالات التناجي حول خلافته، وإمكانيات أن يكون دحلان هو الوريث المنتظر له. 

ابتعد دحلان عن الضفة الغربية أو تمَّ ابعاده عنها، ولحق به عدد من أنصاره ومؤيديه. ومع استمرار حملات التشكيك والاتهام، تحرك دحلان في جمع شمل الفتحاويين الذين انتصروا له ورأوا فيه قيادة بديلة تمثلهم، وقاموا بإنشاء التيار الإصلاحي الديمقراطي لحركة فتح، بأمل إعادة تصويب بوصلة حركة فتح، والتي يرى البعض من أبناء هذا التيار أن سياسات الرئيس أبو مازن قد اختطفتها وأخذتها بعيداً عن منطلقاتها النضالية، وأسلمتها في سياقات غير وطنية للاحتلال عبر التنسيق الأمني. 

وبعد اشتداد قوة التيار واتساع ساحته، كانت الخطوة الأهم في مسيرة دحلان هي إحداث تحولات في نظرته لكل خصومه في الساحة السياسية والعمل على الانفتاح والتقارب مع الكل الفلسطيني. لا شكَّ أن النقطة الأبرز كانت هي اللقاء بقيادة حركة حماس قبل عامين، والاتفاق على تفاهمات سياسية خولت لتياره الإصلاحي مساحات للتحرك واثبات الوجود. 

اليوم، يمثل دحلان عنواناً لتيار وطني يعمل على الساحة ويسعى للشراكة مع الآخرين، وإن كان أمله أن تنتهي المشكلة مع إخوانه في حركة فتح، وأن تستعيد الحركة قوتها ووحدتها في الشارع الفلسطيني.    

ولعل ما أورده د. وائل مطر في وصف واقع العلاقة بين دحلان وحماس فيه الكثير من الموضوعية، وهي كما قال: "إن القيادي في فتح النائب محمد دحلان كان الخصم الأول لحركة حماس في قطاع غزة، حيث تولى قيادة الأمن الوقائي الذي حارب حماس بلا هوادة... لكنه اليوم يحظى بموافقة حماس على أنشطة تياره في القطاع، لماذا؟ لأنه فهم أن حماس حقيقة سياسية قائمة لا يمكن اجتثاثها، فآمن بالأمر الواقع، وتعامل وفق هذا الاعتبار". 

واختم بالقول: بغض النظر اتفقنا مع د. مطر أو اختلفنا معه، فإن الصورة التي لا تخطئها العين أن شخصية دحلان الشاب المتنمر والعقيد المتهور لم تعد موجودة، بل هناك النائب محمد دحلان؛ زعيم التيار الإصلاحي، الذي يسهر لجلب المساعدات والدعم الإنساني لقطاع غزة، ويعمل ببرغماتية عالية لشراكة سياسية مع الآخرين ضمن توافقات وطنية تجمع ولا تفرق.