متى نستفيد من البحث العلمي لسد الاحتياجات؟ عقل أبو قرع

الجمعة 27 ديسمبر 2019 03:14 م / بتوقيت القدس +2GMT




في الكثير من المجتمعات، أصبح البحث العلمي ذو النوعية هو الأساس لتقدم هذه المجتمعات، وأصبح التقدم الاقتصادي الذي يقاس بالناتج المحلي الإجمالي يرتبط بمدى ونوعية وكمية الاستثمار في الأبحاث العلمية التي يحتاجها المجتمع، وكلما زاد الاهتمام الاستراتيجي بالبحث وتوفرت الأرضية القانونية والموضوعية والأخلاقية، وتوفرت الخبرات والكفاءات، تدفقت الأموال من الخارج ومن الداخل على هذا المجتمع الذي يولي البحث العلمي أهمية قصوى.
وفي بلادنا، ورغم زيادة الاهتمام وتشكيل اللجان واتخاذ قرارات، ما زال التخبط وعدم الوضوح يكتنفان وجود استراتيجية بعيدة المدى للبحث العلمي في بلادنا، الذي من المفترض أن يكون الهدف منه هو إيجاد الحلول للاحتياجات، أو لتطوير أوضاع ومنتجات، او لسبر آفاق جديدة تسهل على حياة الناس من ناحية النوعية والجودة والكفاءة وحتى من ناحية الكمية، وما إلى ذلك، وهذا ما تقوم به مجتمعات او دول تقدمت وتتقدم من خلال البحث والتطوير والإبداع والريادة، وقامت بتحديد بنود ثابتة للبحث العلمي، سواء في الموازنة الحكومية العامة، أو في الاستراتيجيات الوطنية، أو في التخطيط قصير وبعيد المدى، من أجل تلبية حاجات المجتمع المتزايدة والمتشعبة، سواء أكان ذلك في قطاعات الغذاء والزراعة، أو الصناعة والتكنولوجيا، أو الأدوية والطب، أو في قطاعات المياه والطاقة والبيئة وما الى ذلك، من قضايا يحتاجها الناس والبلد.
ومعروف أن الأبحاث العلمية مثلاً، هي أحد العوامل الأساسية لتصنيف الجامعات أو المؤسسات أو الشركات في العالم، لذا فإن الجامعات العريقة في العالم والتي عادةً ما تحتل المراتب المتقدمة من تصنيف الجامعات تمتاز باحتوائها على مراكز الأبحاث من حيث النوعية، ومن حيث استقطابها للكفاءات البشرية، والقيام بالأبحاث ونجاحها، يجب توفير البيئة الصالحة لذلك، والأهم هنا ليس توفير الدعم المادي فقط، ولكن توفير الأسلوب من النزاهة والشفافية في تحديد الاحتياجات، اختيار الباحثين وتوزيع المسؤوليات، وكذلك البيئة الصحيحة للتقييم والمتابعة وقياس الإنجازات، والأهم توفير الهيئات المتخصصة للقيام بذلك وعلى أسس علمية ومهنية سليمة.
وحين الحديث عن أي إطار رسمي أو غير رسمي يهدف الى الارتقاء بالبحث العلمي، فإن الأهم هو مدى القوة أو الإمكانيات التي يتمتع بها هذا الإطار، وبغض النظر عن المسمى، سواء أكان ذلك مجلساً أو لجنة أكاديمية أو غير ذلك، حيث من المفترض أن يقوم بتجميع وتنسيق الطاقات والمصادر سواء أكانت بشرية أو مادية، ويعمل كذلك على تحديد الأولويات التي تنبع من احتياجات المجتمع، ويقوم بربط ذلك مع الإمكانيات المتوفرة في الجامعات ومراكز ومؤسسات البحث العلمي، والأهم أن يقوم هذا الإطار بدور عملي وليس بدور شكلي كما هو الحال في تركيبة ومهام وتدخلات مجالس او إطارات أخرى، أو فقط يتدخل وبشكل شكلي، حين تكون هناك منحة أو مشروع أو زيارة لوفد أجنبي من هنا أو من هناك.
والإطار أو المرجع الوطني للبحث العلمي من المفترض أن يعمل على استغلال الكفاءات الفلسطينية، وهي كثيرة ومتعددة، ويعمل على الحد من هجرتها إلى الخارج، ويعمل كذلك لعودة ولاجتذاب الكفاءات والباحثين الذين غادروا البلاد بسبب شح البحث والاهتمام به، وبأن يعمل على تغيير نمط التعليم الحالي في بلادنا، بحيث يكون التعليم مبنياً على التفكير والبحث والإبداع والإنتاج، وأن يتم ملاءمة طبيعة ومُخرجات التعليم لتساهم في سد احتياجات المجتمع، والأهم ربط هذه المُخرجات مع احتياجات سوق العمل، مع التركيز من خلال البحث العلمي على نوعية وأولويات هذه الاحتياجات.
وحين الحديث عن البحث العلمي في بلادنا، فلا يعني ذلك فقط الإطار الرسمي أو الأكاديمي، أي ليس فقط الحكومة أو الجامعات والمعاهد والكليات، ولكن يجب التركيز كذلك على القطاع الخاص، حيث تُعتبر الأبحاث إحدى ركائز تقدُّم هذا القطاع، وتُعتبر الشركات والمؤسسات والهيئات التي تعتمد على الابتكارات والتجديد المتواصل إحدى هذه الدعائم، حيث تُعتبر الأبحاث سر بقائها لكي تنافس في عالم شديد المنافسة، سواء لإنتاج أصناف جديدة أو تطوير أصناف او وسائل موجودة، والشركات العالمية الكبرى لها مراكز أبحاث خاصة بها، تفخر بها وتعمل جاهدةً لاجتذاب أفضل الكفاءات والأدوات، وكذلك تفخر بالميزانيات التي يتم تخصيصها لها. وعلى ذكر ذلك فالشركات الكبرى في العالم تخصص مثلاً مبالغَ قد تصل الى حوالي 20% من مبيعاتها السنوية، للأبحاث والتطوير كعماد التقدم وحتى البقاء، في ظل منافسة شديدة محورها الإبداع والابتكارات.
وحين الحديث عن المرجعية للبحث العلمي في بلادنا، من المتوقع أن يقوم هذا الإطار أو الهيئة بالربط بين كافة الوزارات والدوائر الرسمية وغير الرسمية المعنية، والتنسيق وتحديد الأولويات للجهات المحلية والدولية الداعمة، ويعمل على خلق وترسيخ فلسفة أو ثقافة البحث العلمي في مؤسسات تعليمية أو بحثية أو شركات أو مؤسسات، وفي مجتمع لم يتعود أو لم يعِ ويقدّر أهمية البحث العلمي في تقدم الأفراد والشركات والشعوب.
وبدون مبالغة، فإننا لم نصل في بلادنا بعد إلى مرحلة ترسيخ أهمية أو ضرورة البحث العلمي، كسياسة وكمنهج وأسلوب لتلبية حاجات الناس والبلد ولتقدم المجتمع، وبالتالي تسخير الميزانية والكوادر والجهود والقوانين والتشريعات من أجل تثبيته وترسيخه في المجتمع، لا يتغير بتغير الأشخاص في الوزارات، أو في الجامعات والمعاهد أو في الشركات والمصانع والمزارع ومحطات الطاقة والمياه العادمة، وأساليب التخلص من النفايات بأنواعها، وبالتالي فعلينا التخطيط لتقدم وتطور ونمو مستدام في طريق تحقيق نوع من الاكتفاء، أو نوع من الاعتماد على الذات، وعلينا تغيير النظرة والعقلية والخطط المتعلقة بأهمية وواقع البحث العلمي وربطه باحتياجات البلد، من خلال توطيد استراتيجيات بعيدة المدى، ومن خلال خلق بيئة مستدامة من مجمل النواحي تعتبر البحث العلمي جزءاً أساسياً من تطور المجتمع، لكي يستطيع أن ينافس مجتمعات أصبح البحث العلمي أساس سُمعتها وتطورها ودخولها ميدان المنافسة التي أصبحت شرسةً هذه الأيام.