نشرت صحيفة "الواشنطن بوست" تقريراً قبل أيام عن وحدة تعمل في مجال العلاقات العامة في وزارة الخارجية الإسرائيلية مكونة من عشرة أفراد وترأسها ليندا مينيوهم، وهي من أصل عراقي. الوحدة هدفها تطوير علاقات إسرائيل مع العالم العربي باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك، تويتر، يوتيوب، والانستغرام.
الوحدة التي يزور مواقعها أكثر من عشرة ملايين عربي كل أسبوع تقوم بربط زائري مواقعها بمدرسين للغة العبرية وبأطباء، وتقوم أيضاً بتعريفهم على إسرائيل وعلى اليهودية. التقرير يفيد بأن هذه الوحدة التي تعمل في مجال "الديجتال دبلوماسي" تمكنت من تغيير نظرة ملايين العرب لإسرائيل، لأنها تتفادى الحديث عن قضايا سياسية مثل قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التي تثير حفيظة العرب من زوار مواقعها، وتركز بدلاً من ذلك على قضايا لها علاقة بالثقافة والعلم والروابط التاريخية المشتركة.
في تقديري عبر طرح مواضيع جانبية للحوار بين العرب والإسرائيليين تهدف هذه الوحدة الى تحييد ملايين العرب عن الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.
عندما يتم استدراج ملايين العرب للتفاعل مع إسرائيل في قضايا بعيدة عن الموضوع الفلسطيني، يتحول هذا الموضوع من مسألة جوهرية تحدد الموقف من إسرائيل، إلى قضية مختلف عليها، لا تستدعي من العرب المتفاعلين مع إسرائيل موقفاً، ولكن مجرد التمني أن يتمكن الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي، من تجاوز خلافاتهما وتحقيق السلام بينهما.
العربي يتحول من صاحب قضية عليه واجب الدفاع عنها، الى مراقب مثله مثل أي شخص آخر في العالم، ويمكنه بالتالي أن يقف على نفس المسافة من "المتخاصمين"، ما يتيح له أن ينتقد الفلسطينيين أحياناً وإسرائيل أحياناً أخرى.
أن تقوم إسرائيل باستحداث وحدة لهذه الغاية في وزارة خارجيتها، فهذا أمر مفهوم، لأن العمل على اختراق العالم العربي وتحييد العرب عن الصراع مع الفلسطينيين كان ولا يزال جوهر السياسية الخارجية الإسرائيلية منذ كامب ديفيد العام 1978.
الانفراد بالفلسطينيين هو ما سعت إليه إسرائيل منذ زمن بعيد، وهو ما نجحت فيه على الصعيد العربي الرسمي، لكنها كانت ولا تزال تشعر بأنها لم تحقق الاختراق المطلوب، لأن سلامها مع العرب بقي "بارداً" بسبب الرفض الشعبي العربي لها.
اليوم نرى أن إسرائيل ومن خلال "الديجتال دبلوماسي" بدأت بتحقيق بعض الاختراق على الصعيد العربي الشعبي، وفي هذا بالتأكيد بداية الانهيار لأحد أهم وسائل الدفاع عن القضية الفلسطينية: الرفض الشعبي لإسرائيل هو ما منع الى اليوم الكثير من الأنظمة العربية الرسمية من إقامة علاقات مع إسرائيل، وهو ما منع من يقيم علاقات معها من رفع هذه العلاقات الى مرتبة التحالف الاستراتيجي، وهو ما منع إسرائيل في نفس الوقت من تسريع حسم الصراع مع الفلسطينيين بضم أراضيهم وربما "ترحيلهم".
علينا أن نعترف بأن هنالك قصوراً كبيراً من جانبنا في خوض الصراع الثقافي مع إسرائيل وفي ربطه بالصراع على "الأرض". لماذا لا تقوم وزارة الخارجية الفلسطينية والفصائل الفلسطينية ومنظمات المجتمع المدني الفلسطيني باستحداث وحدات مشابهة لوحدة "الديجتال دبلوماسي" الإسرائيلية يكون هدفها العمل على تحصين الشعوب العربية من وسائل الاختراق الإسرائيلية، وتذكير العرب و"العالم" بما تقوم به إسرائيل بشكل يومي في الأراضي الفلسطينية، وفي تعريفهم بأن إسرائيل لم تكتف بسرقة الأرض الفلسطينية ولكنها تعمل على سرقة رموزهم الثقافية أيضاً.
في العالم العربي هنالك حصانة "فطرية" ضد إسرائيل تشكلت عبر عقود من الصراع مع إسرائيل. أذكر مثلاً، أن شابات كويتيات قُلن لدبلوماسي غربي يتحدث عن حقوق الإنسان بأن لديه ازدواجية في المعاير عندما تحدث عن حقوق الإنسان في العالم العربي وفي نفس الوقت قام بكيل المديح لإسرائيل، ما اضطره للتراجع وللتذكير بأن دولته مع إعطاء الفلسطينيين حق تقرير المصير وأنه ضد الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية.
لكن علينا أن لا ننسى بأن هذه الحصانة الفطرية عرضة للتغير، لأن أكثر من 60% من الشعوب العربية هم من الشباب الذين يعرفون القليل عن الصراع مع إسرائيل، وأن وعيهم فيه العديد من القضايا التي تشغلهم، بما في ذلك الأوضاع الاقتصادية الكارثية التي يعيشونها، وغياب الحريات في بلدانهم، وما يجري في سورية والعراق وليبيا واليمن. بلغة أخرى، القضية الفلسطينية أصبحت واحدة من جملة قضايا تشغلهم ولا تحتل بالضرورة المركز الأول بين جملة ما يشغل فكرهم ويشكل وعيهم.
بشكل مختصر، إذا كان عشرة في وزارة الخارجية الإسرائيلية قادرون على اختراق العالم العربي من خلال ما يسمى بـ (الديجتال دبلوماسي) فإن الفلسطينيين قادرون على جعل مهمة إسرائيل مستحيلة من خلال استغلال نفس وسائل التواصل الاجتماعي لفضح ممارسات إسرائيل اليومية بحقهم، ولتعريف العرب والعالم بتاريخهم ورموزهم الثقافية، وبتعليم الجيل العربي الجديد تاريخ الصراع مع إسرائيل. لكن ذلك يجب ألا يُترك للمبادرات الشخصية، على أهميتها، ولكن يجب أن يكون أيضاً جزءاً من السياسة الفلسطينية الرسمية.


