لا يمكن وصف عمل النظام التركي بعقد الاتفاق الأخير مع حكومة السراج الليبية الا بالعمل «البلطجي».
البلطجة تحضر سافرةً وبقوة حين يعلن النظام التركي مهدداً، عن استعداده وجاهزيته لإرسال قوات عسكرية تركية:
أولاً: الى ليبيا لدعم والدفاع عن حكومة السراج والأقلية التي معها من الليبيين ومن القوى المسلحة غير النظامية في غالبيتها الكبرى.
وثانيا: لحماية ما يرسّمه الاتفاق لتركيا من مصالح ومناطق نفوذ في مياه البحر الأبيض المتوسط، دونما اعتبار لحقوق ومصالح الدول المتوسطية الأخرى مثل مصر واليونان وقبرص، او التفات الى أي اتفاقات دولية تنظمها.
الاتفاق المذكور جاء نتيجة حاجة متبادلة بين طرفيه:
لجهة الطرف الليبي، تحضر بإلحاح حاجة حكومة السراج الى قوة تدعمه وتحمي حكمه في مواجهة قوى ليبية سياسية وعسكرية، تمثل تهديدا جديا وسريعا لاستمراره.
ولجهة الطرف التركي، تحضر الاطماع في نفط وغاز البحر الأبيض المتوسط، التي تشكل في الحقيقة الدافع الرئيسي لعقد الاتفاق المذكور. خصوصا لما تنبئ وتعد به مناطق النفوذ، كما رسّمها الاتفاق في مياه البحر المتوسط، من مخزون هائل من الغاز بالدرجة الأولى ثم النفط.
الى جانب الاطماع التركية في ليبيا نفسها ومخزونها من النفط. ويصب الدافع المذكور لصالح تنمّر تركيا وشهوتها في تخليق مناطق نفوذ لها في أي منطقة تستطيع الوصول اليها، وسعيها لتكون ممرا آمنا للنفط والغاز. كما يصب لصالح تعزيز وتقوية حضورها ونفوذها الإقليمي من جهة. ومن جهة أخرى، لخدمة وتعزيز موقعها وثقل وزنها في توازنات القوى وصراع المصالح والنفوذ التي تدخل طرفا فيها، سواء في النطاق الإقليمي او في النطاق الدولي.
ويحضر بشكل متميز هدف إقامة منطقة نفوذ تركية على الحدود المباشرة مع مصر لتشكل قاعدة انطلاق مواتية تماما لحركة الاخوان المسلمين في تهديدها لأمن مصر واستقرار نظامها السياسي وسلامها الاجتماعي. وذلك انسجاماً وترجمة لحقيقة ان تركيا، ومنذ سقوط حكم الاخوان في مصر، تشكل النظام الحاضن لفلول جماعة الاخوان المصرية ومركز القيادة لحركة الاخوان العالمية.
اولوية الحاجات المتبادلة كما تقدم ذكرها، لها تدفع بالجدل حول شرعية الاتفاق الى مرتبة ثانوية.
سواء جاء الجدل من باب التشكيك بحكومة السراج وشرعيتها وتمثيلها للشعب الليبي وحقها وصلاحيتها في عقد اتفاقات من هذا النوع.
او جاء الجدل من باب اتكاء النظام التركي على حقوق النظام القائم في شمال قبرص وحصته من المياه الإقليمية في البحر المتوسط.
علما بان النظام المذكور موال تماماً لتركيا، وان قيامه بالأساس تم بالفرض نتيجة الغزو التركي لشمال جزيرة قبرص صيف 1974. ومن حينها حتى اليوم لا أحد يعترف بوجوده غير تركيا ولا تواصل له مع العالم الا عبرها.
للأسف، فان ما يسمح بحدوث ما يحدث لليبيا، وفي ليبيا، هو حالة الضعف الشديد في المجتمع الليبي وقواه السياسية والمجتمعية والانقسام الذي يصل حد التشظي والعسكرة فيما بينها. والى تمركز مجموعات مسلحة غير ليبية في أكثر من منطقة على الارض الليبية تلعب دوراً في تثبيت حكومة السراج التي لا ترفض وجودها (وربما لا تستطيع ذلك). وتشكل في نفس الوقت تهديدا للدول المجاورة، وبالذات مصر.
ان سيادة هذه الحالة في ليبيا يعود في جذره الأول الى حكم القذافي الذي استمر رازحا على صدر الشعب الليبي لأكثر من 40 عاماً متواصلة، منع خلالها لدرجة القتل كل إمكانية لتطور المجتمع الليبي، ووجود وتطور أي نوع وشكل للقوى السياسية والمجتمعية واي دور لها.
كما يعود في سنواته الأخيرة (ما بعد القذافي) الى تقاعس النظام العربي بشكل عام عن القيام بدوره وواجبه تجاه ليبيا وتركها مفتوحة على غاربها أمام كل صاحب مصلحة من القوى الدولية والإقليمية، حتى باتت رهينة لجيش استعراضي يذكر بالتندر عن «زحف قوات البدر» في شمال اليمن في سنوات الستينات، ولمجموعات عسكرية وفوضوية، وقوى سياسية ضعيفة ومشتتة.
ان السلوك البلطجي الجديد لتركيا في ليبيا والبحر المتوسط يأتي منسجماً مع طموحها بفرض نفسها نظاماً إقليمياً قوياً ومسيطراً، ويأتي امتداداً لمسلكها البلطجي في سورية والمتواصل منذ بداية الاحداث فيها.
وهو طموح ومسلك يقومان على حلم النظام التركي باستعادة امجاد السلطنة العثمانية في المنطقة، حتى ولو تم ذلك مع تعديلات يفرضها تبدل الأزمان واختلاف الأوضاع والظروف.
وهو ما يعيد الى أذهان أهل المنطقة بشكل رافض، كل صور الاحتلال الطويل والسطوة والعدوان والقهر وتعليق المشانق و»السفر برلك» التي كانت من سمات وخصائص ذلك الحكم.