الدعوة أكثر من ضرورية وملحّة وعاقلة لإعلان لبنان الجديد، الذي تُنحت أحجارُه وسيقوم بنيانُه على الشابات والشباب الذين يضعون حدّاً فاصلاً ونهائياً بين لبنان الهرِم العتيق الحزبي الطائفي، وبين لبنان المعاصر والحديث والحرّ والديمقراطي، والذي يمكن أن يكون المثالَ والمَعلم الجميل الذي يجذب المحيط إلى إمكانية واضحة في بناء دولة حديثة. صدّقوني إن احتكاكي الطويل الصادق بأجيال الشابات والشباب في الجامعات وفي الساحات، أوصلني إلى قناعةٍ راسخة تقول إنّه لا يمكن الاستمرار على الإطلاق بتسليم لبنان الجديد إلى هذه الأحزاب التاريخية الطائفية، التي تتقاسم ويتقاسم شيوخُها وكبار السن فيها السلطات والمال العام والمناصب في لبنان، ويتحايلون لتسليمها إلى أولادهم وأحفادهم وذراريهم للإبقاء على لبنان كما هو وكأنه عقار خاص لكم.
نحن في زمنٍ جديد. افتحوا عيونكم. وهو لن يعود إلى الخلف.
لست بحاجةٍ إلى تعداد هذه الأحزاب، ولا إلى نقدها وخسارة الجهود والكتابات فيها، بقدر ما نحن بحاجة إلى قراءة ما يدور حولنا حيث ملامح المستقبل واضحة.
في طلب التغيير الملحّ والفصل العاقل بين ماض وحاضر ومستقبل والوعي النهائي للفروقات بين ديانتكم، أعني ديانة الآباء والأجداد التي تمّ تطليقها بعد صبرٍ طويل، وتدمير ممنهج لطموح الشابات والشباب، وتطلعاتهم في الداخل والخارج إلى بناء لبنان الجديد. لا تغمضوا أعينكم، ولا تنسوا، خصوصاً أنّ الحروب الكثيرة المحلية والمستوردة التي قمتم بها واستهلكتم الشباب عبرها موتاً وفقراً وتهجيراً قد أكلت تاريخنا، وهي سهّلت مغادرة اللبنانيين لوطنهم لبنان، وقوّت لديهم ثقاقةَ الأسفار السهلة إلى دول العالم، والانتقال الذي وسّع المدارك نحو التعلم والوعي، والجامعات والحضارة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والحكم النظيف، التي كشفت عورات حكامنا وظلمهم وديكتاتورياتهم المتعفنة التي لم تقدّم لشاباتنا وشبابنا سوى الأفكار والبرامج المملة والمهلهلة ووطناً مات برأيي. لم يجد شابات لبنان وشبابُه وطناً فوضوياً في الأرض ومجرماً بحجم إجرام الحكام فيه، وذلك تحت كلمات السيادة والحرية والاستقلال.
أين هي السيادة؟ أين هو الاستقلال؟ أين هي الحرية؟ أين هو لبنان؟ أتصدّقون أن لبنان وطن؟ هذا مكان مهلهل، مهرهر، فارغ من معنى وطن.
لا معنى لإضاعة الأوقات في البحث والعلك والمطّ في توفيق أو توافق أو انتظار العالم للبحث عن حكومة، وسدّ فراغات بقدر ما يظهر المعنى واضحاً بحجم لبنان، والعالم يقشع كلُّه بأنّ المطلوب حرق الجلد العتيق والثياب والخُطب العتيقة وتقاعد طبقة من السياسيين نهائيّاً، لكن قبل ذلك:
دعوا ما كسبتموه سرقةً ومحاصَصة وتحايلاً وبرطيلاً في كيس فوق طاولة لبنان الجديد، دون التبرّم والاحتيال، ولا تحلموا ببيع ثروة النفط والغاز أو تقاسمها مع أحد، تلك الثروة التي لا أريد أن أتطرّق إليها اليوم، بل إنّ الثورة هي التي قد تخبركم يوماً عنها وعن مستقبل استعادتها.
وسأخبركم قصة من أميركا:
حاول المفكّر فرانسيس فوكوياما الذي سحرته أميركا في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" أن يبني للبشرية فكرة الوصول إلى القول بسيطرة أميركا على العالم، وتخلّصها من تاريخ الشعوب البائسة الميؤوس منها في هذا العالم. كان الرجل يطمح إلى بناء أيديولوجيا السيطرة الأحادية، وتعبئة الفراغ الحاصل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وضرب القوى الاستراتيجية في الأرض، وامتصاص المالية العربيّة. وقال إنّ الإنسان وصل، بنظره، إلى أميركا، حيث نهاية التاريخ، وسنعجز بكتابة شيءٍ حول تغيير وضعية الإنسان بعد ذلك. هذا الإنسان الذي سيجد حياته شبيهةً بحياة الكلب الذي لا يتحرّك، والمستلقي في الشمس طوال النهار، سعيداً بحصوله على غذائه البسيط السريع، حيث سيقيم البشر أبنيتهم وأشغالهم كما تبني الطيور أعشاشها، وكما تخيط العناكب بيوتها، وسيقيمون حفلات على طريقة الضفادع والزيزان، وسيلعبون مثل صغار الحيوانات، وسيمتنعون عن الحب كحيوانات راشدة.
أنا أنصح كلّ من يفكّر بالحكم الأبدي، سواء عبر دول عظمى أو صغرى بحرق هذا المؤلّف في مواقد الخريف، لأنّه بدا حلماً ميتاً لم ينتبه إلى الازدحام الهائل لشباب العالَم وراء الأسوار، وبوّابات الخروج للناس، والشعوب التائقة إلى التغيير الذي لن يصل قطعاً إلى تحقيق نظرته بالقول إنّ التاريخ قد انتهى هناك. هذا هراء. التاريخ لن ينتهي. التاريخ يتجدّد ويتحدّث، إذ يكتسي بصوت الشابات والشباب، والشابات في البداية قبل الشباب، لا بقصد التهذيب الغربي، بل بقصد الإيمان بقوّة المرأة وتواضعها ونهضتها في الحكم والإدارة، والرحمة والتواصل، وحسن الرعاية، وعدم البطش، وعدم السرقات.
أدعوكم إلى لبنان
هناك استحالة للتوفيق بين "الثورة" والدولة هنا. "الثورة" في لبنان بين قوسين لتميّزها عن الثورات الملوّنة والناعمة وربيع العرب بالجمع. الدولة أضعها بلا قوسين للحريّة المشاعية، ولأنّها أرض شعوب وقبائل تتقاتل وتسرق، وجائعة خلف الأسوار. الدولة الرسمية ضائعة تائهة تنتظر الجيران من الخليج والسعودية وإيران إلى فرنسا وأميركا وروسيا والصين، في زمنٍ يهتزّ فيه لبنان بتثاقل بين الداخل المتشظي المتعب المقرف، والخارج الذي يمطّ أعناقه نحو الجثّة المنتظرة اللبنانية المعصورة، التي لم يبق فيها نَسْرة لحمٍ لأصحابها وأهلها وشبابها. الزمان الآن يبدو واحداً يجمع الثوار والثائرات مع الحكام المتفاهمين والمتنافرين والمتقلّبين في قصورهم، حيث يأكلهم القلق، وينبت الشوك، وعيون حرّاسهم لا تنام من حولهم، بل تحقد عليهم وعلى نتائج حكمهم، بينما تسهر"الثورة" في الساحات والشاشات والمحمولات والمناوبات، تغطّيها الأعلام المطرّزة بالأرزة والأصوات والصلوات والسبحات حيال مكابرة الفاسدين، وسوق فصول النهب التي أدهشت العين العالمية، بعرض الفقر المتأصّل في جائعٍ من طرابلس يبلُّ رغيفاً بصفوة الزيتون لا بالزيتون، لإطعام أولاده، أُوردُه كمثالٍ. خللٌ اجتماعي وبؤسٌ وإهمال وجهل، وكوارثُ في ميادين المصارف والصحة والاجتماع والتعليم، والبطالة، والنفايات والأمراض، والسكن، وحّدت أنفاس الناس.
افهموا ... ودّققوا في الهُوّة بينكم وبيننا.