هل الجامعة منارة في بلادنا! مهند عبد الحميد

الثلاثاء 17 ديسمبر 2019 10:09 ص / بتوقيت القدس +2GMT
هل الجامعة منارة في بلادنا! مهند عبد الحميد



في الزمن الصعب، تعيد الشعوب بناء قوتها، ونحن بحاجة لإعادة بناء قوتنا في مواجهة أخطر عملية إقصاء وشطب سياسي وطني، وحقوقي إنساني. في هذا السياق ارتأت عشتار معلم الفنانة المسرحية ومعها مسرح عشتار، إعادة إحياء صورة الأنثى كشخصية قوية وحكيمة ومبدعة وند قوي للذكر عبر شخصية أنهيدوانا البطولية أول شاعرة في تاريخ البشرية، مستلهمة الحضارة السومرية العريقة، أرادت عشتار الفنانة أن ترفع من شأن النساء في بلدها واللواتي يتعرضن للتمييز ولتعطيل طاقتهن، مستخدمةً المخيال الفني واللوحات الجمالية التي حولت المرأة إلى قوة، كان لسان حال عشتار يقول عبر هذه المسرحية المدهشة «انهيدوانا»، النساء الفلسطينيات أيضاً يستطعن ان يكن أنداداً وأن يتشاركن المسؤولية من موقع الاقتدار والقوة، وأن يضاعفن طاقة المجتمع على الصمود والبناء والتغيير. وبهذا المعنى كانت عشتار الفنانة مخلصة لرسالة الفن في دعم تحرر النساء الذي لا يمكن فصله عن التحرر الوطني.
بدأ عرض مسرحية انهيدوانا في مسرح جامعة النجاح، بحضور المئات الذين تفاعلوا مع العرض وصفقوا له، غير أن العرض لم يرق لبعض المسؤولين الذين حاولوا وقفه بقطع الكهرباء أكثر من مرة، ثم أوقفوه بقسوة جارحة مستخدمين سلطة الجامعة، بذريعة ان العرض مخالف للعادات والتقاليد. إذا أردنا تعريف المخالفة فيمكن حصرها في أن جسد المرأة هو ملك للمجتمع بحسب العادات والتقاليد، في مقابل مفهوم أن جسد المرأة هو ملك صاحبته حصراً. الموضوع ذو صله بالسيطرة على المرأة وتحويلها الى تابع، ويتناقض مع منظومة قيم الأخلاق والاحترام والتعدد وحرية التعبير المتعارف عليها والمنصوص عليها في القانون. السؤال لماذا لم يعترض السواد الأعظم من الحضور سواء بالانسحاب من المسرح أو بالاحتجاج الصريح ومطالبة الممثلة بالتوقف؟ لماذا لم تحترم إدارة الجامعة رغبة أكثرية مطلقة من الحضور في مشاهدة العرض. إن منع المسرحية يطرح سؤالاً حول تعريف الجامعة هل هي صرح علمي ومنارة لإطلاق العقول والحريات والإبداع، ولاحترام حرية التعبير والتعدد والحق في الاختلاف أم هي مركز للتحريم والعقاب وكبح الإبداع.  الإدارة تقول إنها مع الحريات وضد منع المسرحية وهي في الوقت نفسه تمنع المسرحية. الازدواجية تتبدى في الخطاب الموجه للخارج الذي يؤيد الحريات ويعترف بوجود خطأ «فردي» من جهة، وفي الخطاب الموجه للداخل الذي يمنع عرض المسرحية من الجهة الأخرى. الخطاب الثاني هو المعبر الفعلي عن موقف إدارة الجامعة من وجهة نظر كثيرين.
والمنع له صلة بالديمقراطية داخل الجامعة وخارجها، هنا يجوز الاعتقاد بوجود نوع من الوصاية غير المعلنة على الطلبة، وعلى جزء كبير من الهيئة الأكاديمية من قبل نخبة محافظة نافذة تقدم مواقفها وخطابها الى الجسم الطلابي والهيئة الأكاديمية، باعتباره الموقف الصحيح  الوحيد والمسؤول، ولا تعترف بوجود آراء ومواقف أخرى، وكأنها تمثل الجميع. من هذه الخلفية اتخذت الجامعة قرار منع المسرحية حفاظاً على «السلم» داخل الجامعة الذي يعني السيطرة. وهذا يتعارض مع دور الجامعة في تكريس ثقافة التعدد والاحترام المتبادل للآراء والحق في الاختلاف والتعبير الحر، وفي اعتماد التعليم التحرري الذي لا يخضع لسلطة الاحتلال، ولا لسلطاتنا السياسية والاجتماعية والدينية. ليس من وظيفة الجامعة إخضاع التعليم للسلطات الثلاث من خلال إدارتها. بالعكس إن وظيفة الجامعة هو تأمين الحماية للطلبة وتوفير بيئة حاضنة لتحرر العقول من كل وصاية، ولهذا أسميت الجامعة منارة.  
ما حدث في جامعة النجاح هو امتداد لما يحدث في قطاع غزة من منع للأعمال الفنية وتحديداً منع الاختلاط في الأداء، وما يحدث في سائر أنحاء الوطن من كبح الحريات ومنع التعدد وسيادة ثقافة متزمتة دينياً واجتماعياً. ما حدث في جامعة النجاح والمناطق بوسع الوطن لا بد من رده أو عزوه لجهة محددة هي السلطة والمنظمة والمستويات السياسية من تنظيمات وقوى حاكمة او معارضة، وهي بمجملها تعيش حالة من الازدواجية شقها الأول تبني التعدد والانفتاح والحرية والعلمانية واعتماد المواثيق والاتفاقات والقوانين الدولية، وشقها الثاني السماح بالتحريم والمنع والترهيب وفرض مفهوم واحد ورواية واحدة وتفسير واحد. هنا مركز المشكلة، ولا بد من العودة للمركز الذي ينتج المزيد من المشاكل.
من يتمعن في تركيبة مجلس الوزراء واللجنة المركزية لحركة فتح والمجلس الثوري وفي الوثائق الرسمية، يستطيع الجزم بوجود سلطة مدنية تتبنى التعدد الديني والسياسي والثقافي، ومنفتحة على العالم وثقافته، وينص نظامها الأساسي على الحق في التعبير. لكن الممارسة تقول عكس ذلك، على سبيل المثال، الكتب المدرسية والسياسات التعليمية تميز على أساس النوع الاجتماعي وترفض الحداثة وتقيد العقول بتفسيرات المدرسة المتزمتة. ومنظومة القوانين السائدة تتناقض مع القوانين العالمية الموقعة، ويظهر القانون والأعراف العشائرية أقوى من القانون المدني. السلطات تسمح بنظام التحريم والتكفير عبر الخطاب الديني المتزمت. وواقع الحال فإن الذي يتحكم في وضع المناهج والسياسات وفي الممارسة هو الإسلام الاجتماعي المتزمت. هذه المجموعات هي التي تضع ختمها على سائر السياسات، وتبدو كأنها صانع القرار في الشأن الاجتماعي. هذه النخبة تعتبر العلمانية إلحاداً وكفراً، وتعتبر اليسار والشيوعيين في الخندق المعادي، ولا تعرف ان معظم قيادة حركة فتح من العلمانيين بصرف النظر عن كونهم متدينين أم لا. ولا تعرف ان جزءاً أساسياً من قيادة الثورة والمنظمة بما في ذلك جزء من قيادة فتح «سابقاً» من اليساريين، ولا تعرف ان الميثاق الوطني، ووثيقة إعلان الاستقلال يعتمدان الدولة المدنية الديمقراطية لكل مواطنيها وهذا يعني دولة علمانية. هؤلاء لا يعرفون بالتغيير الذي طرأ في السعودية، التي أوقفت سلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبدأت تستقبل المسرحيات وأفلام السينما، متجاوزةً منظومة التحريم والتكفير. لا يعرفون عن المراجعات التي تحاول الوقوف عند أسباب التطرف والتعصب والكراهية، مراجعات في مصر والسعودية والأردن والمغرب والجزائر وبلدان أخرى -ما عدا فلسطين-. السؤال لماذا تتنازل قيادة حركة فتح للإسلام الاجتماعي المتزمت من أجل منافسة حركة حماس وقوى الإسلام السياسي الأخرى؟ ألا تعلم أنها تخسر خسارة فادحة جراء ذلك!.
إن ما جرى في جامعة النجاح وفي قطاع غزة ومناطق أخرى نتيجة منطقية للصمت والتواطؤ وعدم الاحتجاج وعدم الدفاع عن منظومة قيم الحرية والتعدد، من قبل النخب السياسية والثقافية والفنية التي تمتهن التعايش مع كل تحول وسياسة رجعية، ومع كل اعتداء على الحريات العامة. ما عاد الصمت ممكناً. مطلوب رفع الصوت بالاحتجاج العملي، بالضغط على صانع القرار، وبمقاطعة المؤسسات والقوى التي تمارس القمع والترهيب والمنع، وببناء أطر تدافع عن الحق في التعبير في غياب دور الأطر التقليدية.