ما أن سألت صبيّة بالجينز والقميص الأبيض والعنق المعقود بعلم لبنان في "ساحة الشهداء": لماذا تثورين؟ حتّى تدفّقت بسلاسة وثقة لافتة بالنفس كما الماء الصافي الجاري بقوّة هائلة فوق منحدر: الكلّ يطرح علينا هذا السؤال المعلوك. ألسنا في مكانٍ واحد. أنت ثائر سألتني؟ قلت: قبل أن تولدي ومنذ ما قبل التاريخ الميلادي. لا تسألني إذن إلى أين؟ ماذا سنفعل غداً أو بعد غد؟ نحن التغيير ندفن بقايا الحروب الأهلية والطائفية وندفن الفتك الذكوري وعشوائيات الحكم بوطننا. طردن وخرجن كما النحل من قفير وطن الطين المشقّق السخيف الفارغ ولن نعود إليه قبل بناء قفران ثقافة التغيير الشامل وإشاعتها في العقول والأرجاء أنموذجاً في بناء الأوطان. سألتها: كيف؟ بالسؤال الدائم الذي لا جواب جاهزاً له إلاّ بالتجربة الرفضية. نحن نسأل اليوم سؤالاً وحيداً: ماذا نفعل غداً؟ الأجوبة قد تكون جاهزة ودائمة في وطن ولد مستورداً من خارج، ونحن نعمل على تركيزه وطناً أصيلاً لا ساحة بل موطناً لـ "الثورة" الدائمة. قد تستورد الثورات بأفكارها وتجاربها وملامحها لا عيب في ذلك، لكنها غالباً ما تخرّب وتموت وتؤذي وتقسّم بسبب هشاشة الداخل وأنانية الحكام وانقسامات الأحزاب وتوافقهم على اقتسام الأوطان. يتّهموننا هازئين منّا بأننا جيل الرقميّة والمؤامرات وصناعة الثورات؟
نعم ولِمَ الغرابة؟ لا عيب في الاستفادة من التجارب الكثيرة التي تقلب العالم المسطّح اليوم؟
لقد أكلتنا ثقافة الخوف التي ملأت الوطن دكتوري العزيز. جاء دورك الآن أستاذي. اسمعني، لقد أصغيت لك طويلاً في الجامعة. لقد فقدت الجامعة اللبنانية العريقة بتشظياتها المقرفة روح التغيير.
فوجئت بشجاعتها، لكنّها أفهمتني بأنّ الفتاة التي هي أمامك كانت طالبة تحضّر دكتوراه في علوم الإعلام والتواصل لكنها لم تكمل لأسباب ليس وقتها. حاولت التقاط فصاحتها في طرح مسائل فكرية معقدة مثل صناعة الوعي وميكانيزمات التغيير ومآزم السلطات. ورأيتها تتجاوزني فصاحةً وسلاسةً وتخرجني من تعقيدات أساتذة الجامعات وعقدهم في الأحرام الجامعية لتجعلني طالباً على مقاعد ثورتها العمليّة، ناسياً أعواماً ثلاثة قضيناها في المعهد العالي للدكتوراه تعلّمت فيه من الطلاّب وأنا الطالب الأبدي مفاهيم ونظرات طازجة بسيطة جديدة في السلطات وانهياراتها قبل أن نفكّك معاً ثورات الربيع العربي. من الرائع أن يتحسّس الأستاذ الجامعي رأسه لمتابعة كيف ينبت الوعي ويثمر وكيف تدير الإعلاميات الشاشات والسياسات ويخاطرن فوق دروب الثورات والأحداث الدموية بما يذهل المحيط.
كنت أسمعها ولا أصغي إليها لأنّها أخذتني مشغولاً بكارثة انهيار الجامعة اللبنانية وسقوطها الهائل وتراجعها وتصدعها، وهي التي كانت وكنا فيها نبعاً للنضال والثورة والتغيير والوعي العظيم. كلّها مصطلحات دفنت أو هاجرت وهجرت أحرام الجامعة الوطنية مذ استبدّ بها العقل الطائفي المقيت.
صبرنا في لبنان إلى حدود لا يتحملها الحيوانات لا البشر يا دكتور، قالت مندفعة. نخرنا الفساد والعوز ودمّر علاقاتنا العائلية والاجتماعية والعاطفية ومستقبلنا الذي كان مغطّى بقشّة الواتس أب السخيفة. تصوّر! حتى الكلمة والتواصل كان يفترض أن يدفن في حناجرنا التي انفجرت وجمعتنا برقاً ورعداً في سماء لبنان. كنا نترقّب لحظة الولادة التي طالت لنضع ثورتنا المميّزة في وجوههم الصفراء السوداء ووجه العالم.
يهزؤون منّا؟ يرجموننا؟ لا ننام ولن ننام وسنموت لتوليد لبنان الجديد. لا يرون سوى وشم يجمعنا فوق الزنود والأكتاف. نحن نقشنا أجسادنا قسماً على ثلاثية التغيير: الكفاءة والنظافة والعمل معاً ذكوراً وإناثاً وطائفتنا هي الوطن. لن يركن مسؤول إلى كرسيه بكفاءاته التي لا تكفي بل تتطلب سجلاً نظيفاً لا يكفيه أيضاً إن لم يكن عاملاً متفانياً في عمله ومثابرته. لن يكون هناك وقت للنوم وطق الحنك كما هو حاصل. يستفزّ الوشم والشكل الرجال وخصوصاً رجال ثورات الربيع التي كانت تسحق النساء لسفور عابر. أيمكنك بعد أن تلفّ ثورة معاصرة بطائفة أو أو بزيّ أو بإرضاء حكام مقعدين قاعدين في أبراجهم لا يدرون بمواطنيهم من حولهم، حيث لا ضوء ولا ماء ولا مدارس أو جامعات ولا طبابة، بل جوع وفقر واستكانة وقرف وهجرة. نحن نعيش في خربة قفراء ولبنان ما عاد وطناً.
انظر نحو قعر الفقر في الوشم الأزرق المدقوق فوق ذقن هذه الأم بشفتيها المشقّقتين؟ هذه تثور لأن أميركا وراءها؟ الصوت الراجح هنا واحد، نعم وطن واحد ونساء شابات وشباب وكهول وأطفال ورضع. الهموم والأهداف واحدة والصوت والزمان والمكان والأعلام والرسوم والشعارات وسلميّة الحراك واحدة، ضجّت بها عواصم العالم ومدنه والحكّام في دنيا أخرى والأحزاب تشيع المخاطر والتهويل بالدواعش، وتجدد الحروب الأهلية والتوطين والقتل وغزو الساحات بما يذكرنا بالهنود الحمر؟ نسير نحو وطنٍ جديد شاق لن يصل بسرعة لكنه مرتسم وملامحه مقيمة في التطلعات وفي مخيلتنا. اتّهمونا بجهل النشيد الوطني وجعلته الثورة نشيداً عالميّاً عزفه الرئيس الروسي بوتين على البيانو في القصر الرئاسي. هل تصدّق أن لبنان هذه النقطة الصغيرة في العالم أصبحت خطّ تماس مبهم بين روسيا وأميركا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا!!!
ألم يلفت سعد رفيق الحريري قبالتنا ونبيه بري والسيد حسن وسمير جعجع ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية وآل الجميل وجبران باسيل وغيرهم وغيرهم حجم اللبنانيين ولبنان المهاجر المتظاهر في عواصم العالم، مسكوناً بأحلام العودة وتعليم الأولاد لغة أجدادهم لتعيدهم يوماً إلى لبنان؟ نحن شعب العالم كله نتكلّم لغاته ولهجاته وتسريحات شعره ولحاه، ونعشق المطاعم والمقاصف والنوادي والموضة. لكننا صرنا بشراً نقدّس الثورة الدائمة. هناك وطن جديد سيخرج من أرحامنا وحناجرنا خارج السياسة الفاسدة والتوريث والتدين والعلمانية والانقسامات المذهبية والمناطقية والطائفية، لا فضل فينا لثائر على ثائرة أو بالعكس إلا بتنظيف ساحات التظاهر من حولنا في الصباح وتنظيف الألسنة والسلوك، تطلّعاً إلى تنظيف مؤسسات الدولة والدولة من اللصوص القابضين على الدولة.
نعم ! نحن جيل الإنترنت و"الفاست فود" والسرعة الجنونية في قيادة السيّارات، والزجاجات المضغوطة تماماً كما الحياة اللبنانية، وجيل الـ ماكدونالد والكنتاكي تشيكن والهاردروك، والشاشات العملاقة والرقص في الساحات، وجيل "الروك اند رول" والجينز والشورت والنايكي و"التشيبس" والتسكع والاختلاط في المول، وجيل التحادث بالعربية وبالإنكليزية ونفهم لغات العالم الواحد وثقافاته، ونحن الجيل الصارخ: واو، يس، غاري. نحن جيل النسكافيه والمايكرويف والمشتقات سريعة الذوبان، لكنّنا مع هذا كلّه نحن جيل الثورة التي لن تذوب بسرعة قبل التغيير الشامل.
يتهموننا بكوننا أصحاب ثورة مستوردة قل لهم: تجاوزنا الأمهات والجامعات والأحزاب والزعامات والسياسات والشاشات. نحن جيل فيه من أقبل ومن هو مقبل بلهفة لا تصدّق على الجامعات الأميركية أو الأوروبية، وحتى الجامعات الصينية وجامعات الماوماو ومجتمعاتها لا التي صارت أفضل منّا، ولكن صدّقني أنّ معظم الكافرين بأميركا أو بجامعات من شابات أو شباب العرب والمسلمين والعالم يعتبرون أميركا الفردوس الأرضي.
ألا توافق معي بأنّه إذا ما فتحت الفرص لطالبات وطلاّب لبنان والعرب، بأن تراهم يركضون إلى الجامعات والمجتمعات الأميركية والأوروبية؟
قلت: نعم لكنّ العلّة الدهرية في السياسات لا في المجتمعات.