«أبو عمر» بطل تراجيدي في المأساة الفلسطينية..مهند عبد الحميد

الثلاثاء 19 نوفمبر 2019 10:36 ص / بتوقيت القدس +2GMT
«أبو عمر» بطل تراجيدي في المأساة الفلسطينية..مهند عبد الحميد



عند الأزمات والمنعطفات تبحث الشعوب عن منقذ، ليس بمفهوم ان يأتي من يجترح حلاً بمعزل عن مشاركة الشعوب، وإنما بمفهوم الاستعانة بمن يفتح العقول على الواقع لمعرفة عناصر قوته وضعفه، وأشكال وأساليب تجاوز الأزمة. عندما دخل النظام العالمي في أزمة اقتصادية في العام 2008 عاد الخبراء الى تشخيص كارل ماركس لتناقضات الرأسمالية في مؤلفه الشهير رأس المال. وبالمثل عندما يعيش الشعب الفلسطيني أزمة سياسية واقتصادية حادة، وتتعرض حقوقه الوطنية والمدنية لخطر، فمن الطبيعي ان يبحث عن عوامل صمود لتقوية مناعته الوطنية ولتعزيز وحدته، وغالباً ما يتصدر الفكر تلك العوامل. ولم يكن من باب الصدفة أن يحضر الآن وسط الباحثين عن منقذ حنا ابراهيم ميخائيل «ابو عمر» كقامة فكرية سامقة، وكتجربة نضالية مميزة.
نحن بأمس الحاجة لإضاءات أبو عمر في زمن التوحش السياسي والاقتصادي والأمني الذي فاقمته الترامبية العالمية. ولكن قبل التوقف عند اسهاماته لا مناص من التوقف عند محنة ابو عمر ورفاقه والعدد الكبير من شهداء الثورة والمقاومة. انطلاقاً من مفهوم ابو عمر الذي يعتبر المناضل الذي يعطي كل شيء دفاعاً عن شعبه ووطنه، هو اهم ما في الثورة، وان له حقوقا من المفترض أن تكون ملزمة للتنظيمات وقياداتها. يتحدث الفكر الثوري عن صفة الاندفاع والمغامرة الثورية المسؤولة. هذا لا يعني الذهاب الى الموت والخسارة بدون دراسة اي عمل من مختلف جوانبه. كان ابو عمر «يكتئب لاستشهاد كوادر ممتازة» بسبب غياب التخطيط واهمال امن المقاتل. وبالفعل كانت التنظيمات تتغنى بكثرة الشهداء كتعبير عن دورها وحضورها النضالي. لتكون النتيجة خسائر غير اضطرارية وتتناقض مع المغامرة الثورية المدروسة، ولم يدر في خلد المفكر الثوري ابو عمر انه ورفاقه سيكونوا ضحية مغامرة غير مدروسة لتطبيق القرار الانتقال الى منطقة غير آمنة ببساطة. منذ انطلاقة الثورة خسرنا أعدادا ضخمة من الشهداء، وكانت الخسارة النوعية في ابي عمر ورفاقه هي جزء لا يتجزأ من ظاهرة خسارة اعداد كبيرة من المقاتلين برصاص وقذائف العدو. بدون تقييم ومساءلة ومحاسبة ودروس وعبر. ولا شك ان غياب المساءلة والمحاسبة لدى التنظيمات، جعل هذه الظاهرة تستمر الى يومنا هذا، فكم خسرنا في مسيرات العودة وهل كان ذلك اضطرارياً؟ لم نجب كما لم نجب من قبل وأصبحت الخسارة تقليداً، للأسف. وتحصيل حاصل لم تطرح قضية ابو عمر في الخطاب الاعلامي والسياسي الرسمي للحركة، فقط بعض اخوته في حركة فتح وبخاصة الذين عملوا معه وعرفوه وأصدقاء اكاديميون كإدوارد سعيد وبقي لغز اختفائه مصدراً لحزن زوجته ووالديه واخواته وأسرته ومحبيه وأصدقائه ورفاقه، ذلك الحزن المفتوح المدمر للاعصاب. بقي الجرح مفتوحاً طوال رحلة البحث الطويلة عن مصيره. لا شك في أن الإخفاء والغموض هو انتهاك للحق العام والخاص في معرفة مصيره ورفاقه والحق في معرفة اسباب الاختفاء والمسؤوليات.
• نحتاج الى القيم الانسانية النبيلة التي تمثلها ابو عمر كمفهوم واسلوب حياة في النضال والاكاديمية والسلوك اليومي. الانسان هو ثروتنا الاساسية وهو العنصر الاهم في النضال. كل الشهادات تجمع على طغيان البعد الانساني العميق في شخصيته، والذي يتجلى في تواضعه ودماثته وصبره، يسمع محدثه ويقدم أفكاره ببساطة، يتفهم التباين والتعدد الناجمة عن التداخل بين القيم العشائرية والبرجوازية والثورية، وكان على الدوام ينحاز للقيم الثورية. وفي المحصلة جسّد ابو عمر التفوق الاخلاقي الانساني وهو احد شروط نجاح حركات التحرر الوطني.
• نحتاج إضاءة الفكر التحرري الذي أولاه ابو عمر اهمية خاصة، حرية الفكر والنقد وتعلم اسس التفكير العلمي لفهم الواقع، بالدراسة والتخطيط والتنظيم. يقول ابو عمر «منذ أن أصبحت الثورة علماً، أصبح لزاماً على كل المناضلين ان يدرسوا علم الثورة» حتى يستطيعوا القيام بواجباتهم تجاه شعوبهم. ارتبط الفكر عنده بالتغيير، فحول دراسته للعلوم السياسية وتعمق في دراسة التاريخ الاسلامي ليتمكن من فهم أعمق للمجتمع كي يتسنى تطوير القدرات الذاتية القادرة على تطوير المجتمع. وفي تشديده على اهمية الفكر تحدث عن استحالة تحقيق نصر في ظل قيادة تفتقر الى الفكر والرؤية الاستراتيجية والتنظيم الثوري، معتبراً ان المعرفة هي أهم سلاح للتحرير. وربط بين فهم السياسة واستشراف المستقبل بمعرفة التاريخ. وفي هذا السياق عمل في مركز الابحاث ومركز التخطيط وكتب في مجلة شؤون فلسطينية، ووضع برامج تثقيفية في مدرسة الكادر السياسي. وكان من نتائج تعمقه الفكري التفوق في المناظرة التلفزيونية مقابل» ايلان ديرشويتز» اعتى المفكرين المنحازين لدولة الاحتلال. قدم تصوره لحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي بدولة ديمقراطية بدون عنصرية واستعمار، يعيش فيها الجميع على قدم المساواة، لكنه ربط ذلك بتغير موازين القوى عربياً ودولياً وبوجود قوى اسرائيلية تتبنى هذه الاستراتيجية. وقرأ البرنامج المرحلي قراءة مغايرة للقراءات السابقة، حين تساءل في ما إذا كان التحرير على مراحل ام الاستسلام على مراحل؟ وكانت قراءته هي الصائبة.
• ومفهوم المثقف عند ابو عمر كان الاكثر مصداقية وثورية، لانه اقرن الاقوال بالافعال، حين قضى الوقت بين المقاتلين والمناضلين وحدد مسار حياته بمبادئ تعمل على تحرير وتنوير شعبه. غادر الجامعة والاكاديميا وحياتها المريحة، والتحق بالثورة كمثقف ثوري يعطي اقصى ما عنده ولا يأخذ الا النزر القليل. ملتزما بالتقليد الثوري الذي ساوى المخصص المالي للمحترف الثوري بأجرة البروليتاري العامل. كان ابو عمر الوجه المشرق الذي تمثل كل ما هو ايجابي لدى شعبه في زمن ثورته وتمرده على الظلم والاقصاء والهيمنة والقمع، كان نموذجاً للفلسطيني الذي نال تقدير الكاتب الفرنسي جان جينيه في الفلسطينيين في كتابه «اسير عاشق». انتقد نمط الحياة الاستهلاكي، انتقد دعم البترو دولار للثورة، انتقد العشوائية والارتجال وغياب المضمون الاجتماعي للثورة وانتقد سياسة اللا تنظيم في حركة فتح. كانت رسالته كمثقف ثوري النقد والبناء والتغيير.
• منذ نعومة اظفاره التزم المساواة مع اخواته واختار تقسيم عمل تشاركي لا يميز بين بنت وولد، ودعم المساواة بين المرأة والرجل في تنظيم فتح وفي المجتمع الفلسطيني برغم من الثقافة الذكورية السائدة في المجتمع. ودعا الى تعليم المرأة والى رفض القيود والقيم البالية. اعترض على غياب البرنامج الاجتماعي في الثورة.
قلما يتوفر الانسجام بين منظومة القيم والممارسة، بين التكتيك والاستراتيجية، بين المثقف وقوى التغيير، وفي المساواة بين الرجل والمرأة، وفي حب الناس والتضحية من أجلهم، مواصفات انطبقت على ابو عمر الرمز الذي ترك بصمات قوية ما تزال اصداؤها تتفاعل برغم مرور الوقت. ابو عمر الشخصية المحورية النبيلة تنطبق عليه صفة بطل تراجيدي في المأساة الفلسطينية، عندما وقع في خلل مميت قاده الى حتفه. لكنه بقي فكره وتجربته للاجيال، وبقي حبه في افئدة كل من عرفه أو تعرف على تجربته الرائدة. بقي القول انه ما كان لنا التعرف على تفاصيل هذه التجربة الرائدة الغنية لولا جهود ومثابرة وإرادة شريكة حياته السيدة الرائعة جيهان حلو.
Mohanned_t@yahoo.com