آن أوان التقييم...عبد الغني سلامة

الإثنين 18 نوفمبر 2019 11:57 ص / بتوقيت القدس +2GMT
آن أوان التقييم...عبد الغني سلامة



للمرة الرابعة تتعرض غـزة لعدوان إسرائيلي غاشم، وبقدر حزننا وتأثرنا على الضحايا، وافتخارنا ببطولة وبسالة المقاومين، وصمود الشعب، وإدانتنا للجرائم الإسرائيلية، فإننا بحاجة لتقييم التجربة، بعيداً عن لغة التفخيم والتمجيد، ودون تصيد للأخطاء، ودون مناكفات حزبية بائسة.. على الأقل وفاءً للشهداء، وتقديراً لحجم التضحيات الشعبية، وحتى لا يكون نضالنا حرثاً في بحر.
التقييم يعني بأحد أهم أشكاله «النقد»، أي النقد البنّاء، وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، والاعتراف بالخطأ، دون مبالغة، أو انتقاص من شأن جهة ما، مثل هكذا نقد، يعني إعادة توجيه البوصلة، وتصويب الأخطاء، وتفاديها مستقبلاً، ومراكمة الإنجازات (حتى لو كانت متواضعة)، وهو الشرط الأساسي لبدء الطريق الصحيح، وخلاف ذلك، سنظل نتغنى بالانتصارات الوهمية، وندور في حلقة مفرغة من التراجع والضياع، بينما عدونا يحقق المنجزات، ويكبدنا الخسائر الفادحة.
إذا أردنا البدء بالعدوان الأخير، يتوجب أولاً الانتباه لمفردات الخطاب الإعلامي الذي تستخدمه المقاومة، فمثلاً برر قادة «الجهاد الإسلامي» مبادرتهم بإطلاق صواريخ على إسرائيل، بأنها رد على اغتيال الشهيد بهاء، أحد قادة سرايا الجهاد، وانتقاماً له، وثأراً لدمائه... أظن أن مصطلحات الثأر والانتقام ووكيل الدم وغيرها.. تصلح للحديث عن نزاع قبلي بين عشيرتين، وليس للحديث عن صراع سياسي حضاري بين مشروعين.. كما أن الشهيد، على أهمية مكانته القيادية، ليس أهم من مئات المدنيين الذي قضوا في مسيرات العودة، وفي الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.
المقاومة ليست مجرد ثأر وانتقام، هي فعل وطني وإنساني واعي، وليست ردود أفعال موسمية، والمقاومة يجب أن تكون أولاً: مخططاً لها، ومدروسة، وضمن إستراتيجية متفق عليها. وثانياً: أن تكون لأهداف وطنية خالصة، وليست حلقة ضمن الصراعات الإقليمية، ولمصلحة قوى خارجية. وثالثاً: أن تكون بالوسائل التي يمتلكها الشعب وضمن إمكانياته، بحيث تستمد قوتها منه، وليس من دول تدعمها (وهذه الدول تظل بمعزل عن الخطر)، ورابعاً: أن تتجنب الحرب، لأن الحرب تمكّن العدو من استخدام قدراته الهائلة، التي تتفوق بما لا يقارن مع قدرات الشعب. وتلك باختصار سمات المقاومة الشعبية الميدانية، التي تظل دائمة ومستمرة، وتتيح المجال لكل الجماهير بالمشاركة، بأقل قدر ممكن من الخسائر، ودون أن تتعطل مسيرة الحياة.
وحتى لو كانت المقاومة المسلحة حقاً يكفله القانون الدولي، فهذا ليس كافياً، فالمسألة هي: كيف، ومتى نستخدم هذا الحق؟ إذ إن استخدامها يعتمد أولاً على الظروف والمعطيات المتاحة. وتجارب الشعوب المناضلة تخبرنا بضرورة أن يقتصد الطرف الضعيف بقواه، وألا يُفْرط باستخدامها، وأن يحسن استغلالها، حيث تقتضي الحكمة ألا يخوض حرب الضربة القاضية، لأن هكذا حرب نتيجتها محسومة لمن يمتلك القوة العسكرية الأكبر. باختصار، المقاومة هي ألا تعطي عدوك الفرصة للبطش بك.
خطيئة قوى المقاومة أنها تظل تحشر نفسها في دائرة ردة الفعل، حيث تنجح إسرائيل دونما عناء باستفزازها دوماً واستدراجها إلى المربع الذي تريده، أي المربع الذي تتفوق به، فتلحق بها الضربات الموجعة، سياسياً وعسكرياً، وميدانياً.. وخطيئتها أيضاً أنها تختزل كل أشكال المقاومة بالمقاومة المسلحة، تحديداً الصواريخ.
وبمناسبة الحديث عن الصواريخ، التي لا تشبه الصواريخ الحقيقية إلا بالشكل، يتوجب بعد كل هذه التجارب القاسية إعادة النظر بهذا الأسلوب الذي أثبت عدم جدواه، ميدانياً، فالخسائر الإسرائيلية لا تُذكر، مقابل تدمير غزة ومقتل آلاف المواطنين.. سياسياً وإعلامياً، نجحت إسرائيل في جعل عدوانها مبرراً ومقبولاً من قبل المجتمع الدولي، الذي رأى الصورة على شكل صواريخ مقابل صواريخ، وجيش ضد جيش.. ورأى المدنيين الإسرائيليين في حالة هلع، واقتنع بأن إسرائيل تدافع عن نفسها.. وقد ساهمنا بتعميم هذه الصورة (المزيفة) من خلال التصريحات العنترية التي تهدد إسرائيل بالزوال، وإمطارها بالصواريخ، وتحويلها لمدن أشباح.
هل كانت بيانات التهديد والوعيد، والخطب النارية مجرد دعاية موجهة لأهل غزة فقط؟
بالعودة إلى العدوان الأخير، الحصيلة 34 شهيداً مقابل صفر، وقد عجزنا عن الرد العسكري المكافِئ لجرائم العدو، وبهذا العدوان أعطت إسرائيل بعداً إضافياً للانقسام، بتحييد حركة «حماس»، وإظهار المقاومة منقسمة على نفسها، وإمعانها في تمزيق وحدة الشعب، وفي تجزئة قضيته، وهذا الأخطر.
لا أوافق مقولة: إن العدو استفرد بـ«الجهاد»؛ لأن المستهدف من العدوان هو الشعب، بمقدراته، وقضيته.. بيد أن «الجهاد» كانت تقريباً بمفردها في المواجهة، تركتها «حماس» مكشوفة.. وهذا الموقف لحماس أثار انقساماً في الشارع الفلسطيني، بين مؤيد ومعارض.. وأعتقد أن «حماس» كانت مصيبة في موقفها، لأنها لم ترغب بتصعيد العدوان، ولإدراكها جسامة الخسائر البشرية والمادية، وأنَّ غزة لم تعد تحتمل حرباً أخرى.. هذا موقف وطني ومسؤول، تأخرت «حماس» كثيراً في تبنيه، ولا تكمن المشكلة في تأخرها وحسب، بل في رفضها دفع استحقاقات هذا الموقف، وما يترتب عليه.
هذا الموقف إما يدل على تغير إيجابي في خطاب «حماس»، أو أنّها لا تمارس مقاومة حقيقية، (مبرر وجودها، وعماد خطابها)، بعدما كبلت نفسها بوهم السلطة، وصار همها البقاء كحزب حاكم، فإذا كانت تريد المقاومة فعلاً، فالمقاومة يمكن (بل ويجب) ممارستها شعبياً، ضمن الأسس التي أشرنا إليها سابقاً، بشعب متحد، وبهدف سياسي واضح، هو دحر الاحتلال، وبتمثيل سياسي موحد للشعب والقضية، تحت مظلة منظمة التحرير، وهذا يعني أن تعود «حماس» فصيلاً مقاوماً، وأن تتخلى عن سيطرتها على غزة، وتنضم إلى منظمة التحرير.
أما سياسة إمساك العصا من النصف، والمراوغة، والخداع بخطاب شعبوي، فهذه مغالطات، لم تعد مقبولة، فلا يمكن لـ»حماس» أن تكون سلطة وحركة مقاومة في آن.. عليها أن تحسم موقفها بوضوح، طالما أنها تهدد إسرائيل بتحويلها لمدن أشباح، وتزعم أنها الممثل الحقيقي للمقاومة، فلماذا امتنعت عن الدخول في الحرب إلى جانب الجهاد؟! هل اقتنعت أخيراً بالواقعية السياسية؟ هل قاست «حماس» المعادلة المختلة في موازين القوى بحجم التكلفة، وأدركت أن سلاح المقاومة صار عبئاً عليها، لأنها لن تستعمله لخوفها من التكلفة الباهظة لاستعماله، فإذا أرادت الحرب يعني تدمير القطاع وتخريبه على ساكنيه، وإذا رفضتها يعني ذلك تساوقها مع المخطط الإسرائيلي، الذي يسعى لعزل غزة نهائياً، وتأبيد الانقسام، وبالتالي ضياع القضية برمتها. أما سياسة اللاحرب واللاسلم (الهدوء مقابل الهدوء، أو الهدوء مقابل الطعام) فهذه لا تخدم سوى مخططات إسرائيل.
أي إجابة عن تلك الأسئلة، تعني أن «حماس» في مأزق، وهذا المأزق هي من وضعت نفسها فيه، منذ اليوم الأول لسيطرتها المتفردة على غزة.