موسم الزيتون، عرس كنعاني..عبد الغني سلامة

الإثنين 14 أكتوبر 2019 03:40 م / بتوقيت القدس +2GMT
موسم الزيتون، عرس كنعاني..عبد الغني سلامة



للشعب الفلسطيني مواسمه الزراعية المتعاقبة على مدار السنة، وكل موسم منها بمثابة عُرس، لما فيه من المظاهر الفولكلورية المتوارثة منذ زمن الكنعانيين، فهناك موسم البرتقال اليافاوي، وموسم المشمش المستكاوي، وعنب الخليل، وبطيخ جنين، والموز الريحاوي.. إضافة إلى حصاد القمح في مستهل كل صيف، ولكل موسم طقوسه وأدواته وميقاته، ولكن موسم الزيتون يبقى أبرزها وأشهرها، لأن الزيتون رمز للسلام وقد اقترن اسمه بفلسطين، وصار شجرتها القومية، وسفير هويتها الوطنية إلى العالم.
في تشرين الأول، يبدأ موسم قطاف الزيتون، فتخرج العائلة بكل أفرادها منذ الصباح الباكر إلى حقول الزيتون وتبقى هناك إلى وقت الغروب، فتخْلو القرى بكل منازلها وبيوتها من أصحابها تماماً، حتى الأطفال الرضع تصطحبهم أمهاتهم معهن إلى البرية، بينما يتوجه الأولاد والبنات إلى مدارسهم، ليعودوا بعد انتهاء الدوام المدرسي إلى حيث بقية الأسرة للمساعدة في عملية القطاف، حتى أن وزارة التربية وبقية المؤسسات الحكومية تعطي موظفيها «إجازة زيتون». كما يهب شبيبة الجامعات ويأتي متطوعون أجانب من حركات التضامن الدولية للمشاركة وتقديم العون، ففي هذه الأيام يكون الجميع منهمكين في العمل، المرأة تربط أطراف ثيابها الأمامية لاستخدامها كوعاء للجمع، الشبان «يتشعبطون» الأشجار، ويتسلقون السلالم للوصول إلى الأغصان العالية، والبعض ينهمك بإعداد الطعام، قلاية بندورة في أحضان الطبيعة، أو طبخة مقلوبة، وبالطبع مع غلي الشاي على الحطب في أجواء عائلية بهيجة، أضيف إليها حديثاً طقس نشر صور قلاية البندورة على «فيسبوك».. في نهاية النهار وقبيل الغروب، يتم جمع المحصول ونقله في أكياس من الخيش أو البلاستيك من البساتين إلى أماكن التخزين في البيوت، تمهيداً لإرساله للمعصرة (الدراس)، وهناك يحرص جامعو الزيتون على إحضار رغيف خبر «»طابون» ساخن، لتناول الزيت فور تدفقه من المعصرة، بمذاقه الأروع على الإطلاق.. أجواء فرح وبهجة، وتقاليد راسخة تتناقلها الأجيال الفلسطينية وتتمسك بها جيلاً بعد آخر، أصالة وعراقة ما زالت في ذروة ألقها، وتثير غيظ الاحتلال.
وكلما حال الحول، وجاء موسم الزيتون تضاعف اهتياج الاحتلال، وأصبح جنوده ومستوطنوه يتسابقون في ابتكار الوسائل والأساليب لإفساد هذا الموسم وترويع الفلسطينيين ومنعهم من التوجه إلى بساتينهم وكرومهم لجني محصولهم، فضلاً عن جرائمهم في قطع أشجار الزيتون، واقتلاعها وتدميرها على مرأى ومسمع من العالم، وأيضاً السطو على رمزية شجرة الزيتون، وتقديمها للعالم من خلال المنشورات الدعائية والسياحية وطوابع البريد على أنها رمز لتاريخ إسرائيل وتراثها!!
وزيت الزيتون أحد أركان الاقتصاد المنـزلي ويمثل 12% من مجمل الإنتاج الزراعي الوطني، ويعد من الأعمدة الأساسية لحياة الإنسان الفلسطيني، يقول المثل الشعبي: «الزيت عماد البيت»، وله خصائص علاجية وقيمة غذائية كبيرة، كما يستخدم في العديد من الوصفات الشعبية، ويضاف إلى بعض الأطباق كالحمص واللبنة والتبولة، ويستخدم الزيت القديم في صناعة الصابون النابلسي الشهير.
واعتباراً من بداية الصيف، يبدأ الفلاح الفلسطيني بإحصاء زيتوناته وتفقدها وتعداد الأيام المتبقية لموسم قطافها، الذي يبدأ عادة في بداية تشرين الأول من كل عام، ويستمر حتى ينتهي كل مزارع من جني محصوله، وعصر إنتاجه من الزيت. ويمتد الموسم بكبار الملاك إلى مطلع العام الجديد في كانون الثاني، ومن لا يملك كرماً من الزيتون يبحث عن عملية «ضمان»، أي الاتفاق مع أحد الملّاك على جني محصوله من الزيتون مقابل حصة معينة من الزيت.
وبسبب اهتمام الفلاح الفلسطيني بهذه الشجرة، وقوة ملاحظته ومتابعته لها خلال السنة، تراكمت خبراته في هذا المجال، وأنتج أمثالاً شعبية عديدة، منها: «سيل الزيتون من سيل كانون»، «إن أزهر بآذار جهزوا له الجرار». «إن حسم الزيتون في الخميس هيئوا له المغاطيس». (وهي الأواني الصغيرة لضعف المحصول، والخميس هو شهر نيسان). «وأيلول دبّاغ الزيتون». ويقول المثل في علاقة العناية بالشجرة بالإنتاج: «الزيتونة مثل ما بدك منها بدها منك»، بمعنى وجوب تقديم الرعاية حتى تثمر جيداً. و»من الشجر إلى الحجر» وهو مثل شعبي يعني ضرورة نقل ثمار الزيتون مباشرة من الكروم إلى حجر الرحى في المعصرة لهرسها ودرسها فوراً من دون تخزين أو انتظار، ويعد محصول الزيت الناتج عن هذه العملية أجود أنواع الزيت.
شجرة الزيتون معمّرة، أقدمها على الإطلاق في منطقة بيت لحم وعمرها أزيد من 5 آلاف عام، ولهذه الشجرة فوائد عديدة في حياة الإنسان؛ فهو يستفيد من ثمرها وزيتها وجفتها وخشبها وأوراقها، في الغذاء والدواء والدفء والأدوات والمنتجات الحرفية والتراثية والصناعية، والزيتون في نظر الفلسطيني قيمة لملكية الأرض وجمالها وروعتها بخضرتها الدائمة التي تكسو الجبال والطبيعة.
وتبلغ مساحة الأراضي المزروعة بالزيتون في فلسطين 885 ألف دونم، ويقدر عدد أشجار الزيتون بحدود عشرة ملايين شجرة، معظمها من الصنفين النبالي والسوري، فيما يقفز إنتاج زيت الزيتون في فلسطين في السنوات الماسية إلى أكثر من 35 ألف طن، وينخفض هذا الرقم إلى 7 آلاف في السنوات «الشلتونية»، وهذا بسبب ظاهرة تبادل الحمل والري غير المنتظم.
ومن وحي الثقافة الشعبية، شبّه الفلاح أشجار الزيتون، والتين، والعنب بالنساء، تكريماً للشجرة، وإدراكاً منه بأن النساء أجمل ما في الكون، فشجرة الزيتون التي تنمو في كل مكان وتقتنع بالقليل من العناية والاهتمام تشبه المرأة البدوية. وشجرة التين التي تتطلب اهتماماً وعملاً أكثر تشبّه بالمرأة الفلاحة، أمّا دالية العنب تشبه المرأة المدنية التي تتحمل قليلاً وتتطلب اهتماماً أكثر وتعيش برفاهية. وعندما يباركون في عروس يقولون: «يا ريتها زيت وزيتون وميّة من ميّة كانون»، وتوضح هذه العبارة عن مدى تقدير المجتمع للزيت والزيتون، وكم يحمل من المعاني والقيمة والمكانة في النفوس كرمزٍ للخير والعطاء والبركة، ولقيمة ماء كانون الضرورية للخصب والزراعة.
هذا الموسم، من المتوقع أن يكون «ماسياً»، فيعوض الفلاحون بعضاً من خسائرهم في المواسم السابقة، لكن يبدو أن قرار وزير الزراعة بالسماح باستيراد الزيتون من الخارج قد يفسد هذا الموسم.. تمنيت من خبراء وزارة الزراعة الذين أقدرهم وأثق بخبراتهم، أن يمنعوا مثل هكذا قرارات متسرعة.