أحمد بهاء الدين .. أحد صناع الصحافة -1..عبير بشير

الثلاثاء 30 يوليو 2019 10:13 ص / بتوقيت القدس +2GMT
أحمد بهاء الدين .. أحد صناع الصحافة -1..عبير بشير



«لا يولد الإنسان وعبرة التاريخ في جوفه.. ولكنه يتعلم، فهو لا يستطيع أن يعرف التاريخ إلا إذا قرأ. إن كان رجل قانون قرأ ما سبق إليه فقهاء القانون، وإن كان رجل كيمياء تعلم ما وصل إليه المكتشفون السابقون، ومن حيث انتهوا يستطيع أن يبدأ. وليس يكفي أن تعرف حوادث التاريخ لكي تحسب أنك قد تعلمت التاريخ، فالأهم أن تستخلص من هذه الحوادث عبرتها: على أي شئ تدل؟ وفي أي طريق يمضي التاريخ؟ فإن ذلك يجعلك تعلم ما سوف يحدث وما لا يمكن أن يعود، فيجنبك أن تكون رجعياً ويحميك من السير وراء دعوات براقة فات وقتها. والتاريخ هو الفارق بين الإنسان الواعي، وغير الواعي؛ حيث إن الإنسان غير الواعي لا يرى إلا قطعة الجبن. ولكن الإنسان الواعي يرى قطعة الجبن ويرى المصيدة».
بهذه الكلمات يبدأ الكاتب الجميل، أحمد بهـاء الدين، كتابه «أيام لها تاريخ»، الذي حاول من خلاله أن يكشف اللثام عن قضايا هزت المجتمعات لفترات ليست بالقصيرة. 
ولد أحمد بهاء الدين عام 1927 بالإسكندرية، وتخرّج في كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، وهو في التاسعة عشرة من عمره. وبسبب صغر سنه لم يستطع ممارسة العمل في النيابة أو المحاماة، فاضطر إلى الالتحاق بوظيفة حكومية في الأقسام القانونية.
وقبل أن يبدأ أحمد بهاء الدين تجربة الكتابة الصحافية، كان قارئاً شغوفاً، واسع الاطلاع، ما أضاف إليه أعماراً جديدة، كانت مقالاته الأولي تتسم بالجاذبية والحس الإنساني والقدرة الفائقة على التحليل والنفاذ إلى المستقبل، مع رصيد وازن من الرصانة والنضج، أشاع لمن لا يعرفونه أنه كهل عركته الأيام، رغم أنه كان في العشرينيات من العمر.
ثقافة بهاء الدين السياسية والأدبية والتاريخية، كانت مذهلة وعميقة، واتسمت كتاباته بقدرة إقناعية كبيرة، وبخطاب مكثف هادئ النبرة يحرص على الدقة والوضوح، فقد كان يرى أن الصحة الأسلوبية قرينة الصحة الفكرية. لم يكن أحمد بهاء كاتباً قط، بل هو مفكر، وأحد القلائل الذين ينتمون إلى جيل رواد الصحافة المصرية، الذي ضم إحسان عبد القدوس، ومحمد حسنين هيكل ومصطفى أمين.
يقول أحمد بهاء الدين عن تجربته الصحافية: إنه يذهب في كتاباته إلي آخر حدود الأسلاك الشائكة، غير أنه يتجنب الاصطدام بالألغام، لذلك لم يكن من الصحافيين الذين عرفوا السجون ولكنه عرف النقل والفصل.
التقطته السيدة فاطمة اليوسف، والدة إحسان عبد القدوس- السيدة الاستثنائية التي لعبت دوراً مؤثراً في الصحافة المصرية، وكانت لها قدرة عالية على تمييز صاحب الموهبة الحقيقية من بين الصحافيين والكتاب - واجتذبته للعمل في مجلة «روز اليوسف»، حيث إنه كان يهوى الصحافة، ودأب على كتابة خواطره بأسلوبه السهل والموجز والمركز وإيداعها في صندوق بريد مجلة روز اليوسف. أعجبت بها السيدة فاطمة اليوسف، وقامت بنشرها، وسألت عن صاحب هذه المقالات وطلبت حضوره، وفي موعد تسليم مقاله أمسك به رجال الأمن وأخذوه للسيدة اليوسف التي عرضت عليه الانضمام إلى المجلة. لتبدأ من هنا رحلة كاتب وصحافي كبير اسمه أحمد بهاء الدين. وأسس تحت رعايتها مجلة «صباح الخير» التي رفعت شعار «للقلوب الشابة والعقول المتحررة».
وبعد سنوات من التوهج، طلبه مصطفي أمين ليكون رئيساً لمؤسسة «أخبار اليوم» عام 1959، ثم نقله الرئيس عبد الناصر إلي رئاسة دار الهلال. وعندما تولي السادات الحكم، أصدر قراراً بنقله من الهلال إلي روز اليوسف، وغضب أحمد بهاء وكتب رسالة عنيفة للسادات قائلاً: لقد اخترعت الثورة صحافيين وكتاباً ودكاترة في كل المجالات، ولكني لست أحد اختراعات الثورة، فمن حقي أن يؤخذ رأيي في أي أمر يتصل بي شخصياً.
ولبهاء الدين عدد من المؤلفات، منها: «إسرائيليات»، و»أيام لها تاريخ»، و»محاوراتي مع السادات»، و»يوميات هذا الزمان» و»شخصيات لها تاريخ»، و»النقطة الرابعة»، و»فاروق ملكاً»، و»رسائل نهرو إلى أنديرا». غير أن كتابه الأول الاستعمار الأميركي أول من دق ناقوس الخطر لما ينتظرنا علي أيدي الإمبراطورية الأميركية التي تغزو الأوطان بالمال، فيقوم الاستثمار الأميركي باحتلال الدول بالمعونات إلى جانب الجيوش.
إنها نفس اللعبة التي تؤرقنا حتي اليوم وطرحها بهاء الدين وعمره 22 عاماً.
عاش أحمد بهاء الدين في قلب الصراعات العاتية بالصحافة والسياسة، ولكنه خرج سالماً يلقي الاحترام من كل المتصارعين، لأنه لم يكن مشغولاً يوماً بالمناصب، ولا كان من كتاب البلاط، بل كان مسكوناً بالثقافة وحب الوطن. وظل أحمد بهاء على مسافة كافية من السلطات الحاكمة، رغم إعجابه بعبد الناصر، وأفكاره، ورغم أنه كتب العديد من الخطابات السياسية، للرئيس أنور السادات. ولعل أبرز الأشياء التي التزمها حرصه الدائم على حرية الصحافة، وفي هذا السياق كتب في إحدى يومياته منتقداً أوضاع الصحافة: «إن الحكومة تتعامل مع رؤساء المؤسسات الصحافية بمنطق أن يؤيدوها إلى أقصى حد مقابل أن يفعل رؤساء المؤسسات ما يريدون».
ويقول مؤلف كتاب «في صحبة أحمد بهاء» الكاتب مصطفي نبيل، الذي عكف على تطوير مجلة «الهلال» المصرية: إنه عندما قابل أحمد بهاء الدين أول مرة، رآه مختلفاً عن غيره من أساطين الصحافة المصرية، رآه صاحب نغمة جديدة وصوت خاص وروح شابة ونظرة عقلانية للحياة، وكلما قرأ مقالاً أو تحقيقاً بحث عن هاتف كاتبه وتحدث معه، مظهراً إعجابه بما كتب.
ويركز الكاتب على مفاصل أساسية في مسيرة أحمد بهاء الدين، منها قضية الاستقلال الوطني: إنها بداية رحلة شاقة، وتأتي الحرية بعد ذلك، حرية المواطن، وحرية الحركة السياسية، مع ضرورة سد ثغرات تحايل السلطة الحاكمة على هذه الحركات. ثم تأتي القضية الاجتماعية، إذ لا يمكن أن ينهض وطن مع الفقر والعوز.
ولا يغفل الكتاب أهم المعارك الفكرية التي خاضها أحمد بهاء الدين، منها معركته ضد من أسماهم دراويش الماركسية الذين يعادون الأفكار القومية، ومعركته مع عباس محمود العقاد حول عدائه للمرأة، ومعركته مع عدد من المشايخ الذين يتمتعون بشعبية جارفة، وسمّى هجومهم «الإرهاب الفكري».
الصحافي صلاح عيسى، تحدث أيضاً عن أحمد بهاء الدين وتجربته الصحافية: «كان واعياً بحركة التاريخ، ومتطلبات الخطاب الصحافي، متمكناً من أدواته، متفنناً في أساليبه، وطريقة عرضه للموضوع سلسة وسهلة، لأنه يعرف أن الكتابة هي فن التفهيم. وحرص أحمد على أن يضفي على المطبوعة التي يشرف على تحريرها شخصية خاصة بها، فجاءت شخصيات الصحف العريقة التي ترأس تحريرها لتختلف عن غيرها وعن شخصيتها هي نفسها من قبل.
وهو بوصف جلال أمين في كتاب «أحمد بهاء الدين.. باقة حب»، جمع بهاء بين ذكاء فطري حاد، وقدرة فائقة على الربط بين النظرية والواقع، وحس أخلاقي رفيع، وأسلوب صافٍ خالٍ من الشوائب، يذهب إلى الهدف مباشرة، وقدرة عالية على التمييز بين المهم وغير المهم، وعلى ترتيب الأولويات ترتيباً صحيحاً. وكان قادراً على أن يرى المغزى الحقيقي للأحداث عندما كان الآخرون يحاولون أن يتلمسوا حقيقة الأشياء وسط ظلمة السياسة.