الإله الآتي أو "ثقافة الوعد الديمقراطي"عبد الرحمن بسيسو

الإثنين 26 نوفمبر 2018 06:07 م / بتوقيت القدس +2GMT



"قد بات واضحاً أنَّ المسارات الحضارية التي أمعنت في تحقيق الخير والنعمة، قد أمعنت في إلقاء فضلاتها السوداء على وجوه الحياة، وأحياز الطبيعة، وجباه الناس".

ولئن كانت مقاربات جاك ديريدا المبثوثة في العديد من مؤلفاته الفلسفية ومحاوراته ومقالاته، ولا سيما مقالاته الموسّعة حول “آخر الدول المارقة” و”الديمقراطية القادمة”، قد أوصلته، ضمن استنتاجات وأفكار ورؤى عديدة ومتنوعة، إلى خلاصة مؤداها أن “العدالةَ” المنشودة من قبل الإنسانيين من الناس، والتي تُمَثِّلُ أُفُقَ القانون وحدّه الأسمى، غير قابلة للتَّجلي إلا في إطار ما دعاه بـ”الديمقراطية القادمة”، ثمّ أكّد أنّ هذه “الديمقراطية القادمة” هي محض ترقّب وانتظار لقدوم منقذ يستحيل قدومه؛ فإننا نقرأ في هذه الخلاصة السّاطعة دلالتين متعارضتين:

تتلخّص الدّلالة الأولى في استنتاج مؤداه أنّ وجود الإنسان سيظلّ محكوما بفكرة انتظار هذا المنقذ؛ هذا الإله الغافي في أقبية المستحيل الأسطوريّ، أو الدّيني، أو الفلسفيّ الخلاصيّ؛ أي هذا المخلِّص الأزلي الأبدي “المنتظر أبدا”، والذي “لا يأتي أبدا”!

أمّا الدّلالة الثّانية، فتتكثّف في إدراك نقيض مؤدّاه أنّ المنقذ الحقيقي، الفعليّ والممكن، والذي سيكون متأهبا للمجيء، ولمتابعة مجيء لا يكفُّ أبدا عن المجيء، إنَّما هو كامن في جوهر كينونة البشر القابضين على جمرة إنسانيتهم الخالدة، وما عليهم إلا السّعي اللَّاهب لإيقاظه من غفوته التي طال أمدها، بقدر ما طال انتظاره هو نفسه  في أغوار أعماقهم الغافية على أسرة الجهل والعجز المهيض، لحظة حدوثه. 

وبالطبع، فإن هذه اللحظة التي لا تتجسّد إلا في يقظتهم المفضية إلى شروعهم في إنهاض وعيهم الواعي، لن تكون حقيقية وذات مغزى إلا بانخراطهم، من ثمّ، في حراك جمعيّ جادٍّ ومتواصل، عميق وممتد، يدشّنه، قبل كلّ شيء وأثناءه وبعده، سعيهم الحثيث لحماية أنفسهم من أسوء سوء يتجسّد في إمعانهم، بأمر أنفسهم الأمّارة بالسّوء، في انتظار منقذ غيبيّ لا يأتي!

وبعيدا عن الخوض في تفاصيل التأملات الفلسفية المتعلّقة ببحث الهوية الإنسانيّة عن كمال محتمل، والحضارة الإنسانيّة عن رقيّ أعلى، والحرية الإنسانيّة عن مدارات أوسع، فإننا لندرك أن الخلاصة التي نقرأ دلالاتها الآن، إنما تحيلنا إلى الإقرار، بصدقية وعمق، بحقيقة راسخة تتبدّى في تفاصيل حياتنا على نحو أسطع تجلّيا وأرسخ حضورا من تبدّي الحاجة إلى إقامة الدليل على رسوخها! 

فما هي تلك الحقيقة الرَّاسخة والتي تزداد، في زمننا هذا، رسوخا على رسوخ؟

ليس ثمة من حقيقة في عالم اليوم أشد تجليا وأعمق رسوخا من حقيقة مضاعفة تتجلى في انشطار العالم الذي يُزعمُ أنَّ كلاً من التطور الحضاري والإرادة الإنسانية يريد له أن يكون “قرية كونية” و”عالما واحدا”، إلى عوالم متباينة، بل ومتصارعة يفضي أتونها اللاهب إلى تشظي البشر، ولا سيما منهم أولئك الذين تريد لهم إنسانيتهم الحقَّة أنْ يتماهوا جميعا في جوهر هويّة إنسانية كلية جامعة موسعة وملتحمة، إلى هويات تتأسس على ما يناقض هذه الإرادة من تماه انغلاقي متطرف، سواء أكان ذلك تماهياً بالعرق، أو الإثنية، أو القوميّة، أو الدين، أو الطائفة، أو المذهب، أو التصور الأيديولوجي، أو الحيز المكاني، أو الثراث الحضاري العرقي الموغل في القدم، أو غير ذلك من عناصر هوياتية ومكونات ثقافية وأزمنة تاريخية وحضارية ومواطن وموائل وأولويات!

تلك هي الحقيقة الرّاسخة، وذلك على الرغم من أن إنسان الحياة والعالم، قد سعى منذ قرون عديدة وعبر الفكر الفلسفي والسياسي التنويري، إلى إنفاذ إرادة الإنسانية الحقة التي تتوق إلى تجلية حضور الإنسان، حضورا حرا ووضاء في الوجود، عبر قوانين ودساتير وأنظمة حياة تستجيب لحاجاته وأشواقه وتفتح أمامه أوسع الآفاق لمتابعة سعيه اللاهب إلى إدراك كماله الإنساني المحتمل، وتوسيع حريته وتعميقها، وترسيخ وجوده الإبداعي الخلاق في مساحات الحياة ومدارات الوجود!

نعم، لقد تابعت الحضارة الإنسانية شق طرقها المتعرجة والمتشابكة حتى أدركت حداثة اعتقد بعض البشر أنها تليق بهم وبغيرهم من البشر، فشرعوا في ابتكار حداثات تتجاوز نفسها إلى ما بعدها، وإلى ما بعد بعدها وما بعدها، وكانت مبادئ الإخاء الإنساني والحرية والعدل والمساواة منابع ثرية لتوليد فكرة الديمقراطية والشروع في تجسيدها على تباين أشكالها وتعدد تجلياتها في كيانات الدول. 

غير أن التأمل في المآلات، على غرار ما فعل الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا وآخرون غيره، يقول إن هذه المسارات الحضارية التي أمعنت في تحقيق الخير والنعمة، قد أمعنت، في الوقت نفسه، في إلقاء فضلاتها على وجوه الحياة، وأحياز الطبيعة، وجباه الناس، فأثقلتها جميعا: انتهاكاً للحقوق والحريات من كل نوع ولون، ظلماً وطغياناً واستبداداً، وجشعاً لا يشبع، وممارسةً متعسفةً للقوة والسلطة، باسم السيادة المعززة بالقوة والسلطة، أو باسم “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان”، أو باسم الإله الذي يسكن كليهما، مثلما يسكن نقائضهما، المتجليَّة والخفية في آنٍ معاً!