بشق الأنفس، استطاع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الحفاظ على حكومته بعد استقالة وزير دفاعه أفيغدور ليبرمان؛ احتجاجاً على قبول إسرائيل وقف إطلاق النار في إطار تهدئة مع حركة "حماس" وجدها ليبرمان هدية للأخيرة.
لم يكن نتنياهو ليعير ليبرمان أي اهتمام بعد أن استقال من منصبه لو كان حزب "الليكود" الذي يقوده الأول قوياً، لكن حكومة نتنياهو مبنية على "كوكتيل" من التحالفات الحزبية من بينها حزب ليبرمان "إسرائيل بيتنا" الذي يمتلك ستة مقاعد في الكنيست.
من العبث الحديث عن التصنيفات الأيديولوجية بين الأحزاب الإسرائيلية، خصوصاً أحزاب مثل الليكود وكاديما والعمل و"إسرائيل بيتنا" و"البيت اليهودي"، لأن الحكومات الإسرائيلية تعاقبت على السلطة بيسارها ويمينها، لكنها ظلت تعمل بأيديولوجية واحدة تستهدف تصفية الشعب الفلسطيني.
رئيس الحكومة الإسرائيلية يمكنه أن يزاود على ليبرمان في ركوب موجة اليمين وإضعاف الفلسطينيين أكثر فأكثر وتجريدهم من كل عناصر قوتهم، وهو يقوم بذلك قولاً وفعلاً، لكن الفارق بين الرجلين أن نتنياهو مُسيّس ويدرك أن تحقيق مصالحه يأتي باستخدام العقل وممارسة المكائد والمناورات السياسية، واستدراك متى يمكن التصعيد ومتى يمكن التهدئة.
أما ليبرمان فيتأبط شراً للفلسطينيين ويرغب بنوم عميق وصحوة لا يجد فيها فلسطينياً واحداً، دون أن يغرق في السياسة و"يكولس" هنا وهناك للتآمر عليهم، عكس نتنياهو الذي وظّف علاقته الإستراتيجية بالولايات المتحدة لخدمة تمرير صفقة القرن التي يرفضها الفلسطينيون.
قبل استقالة ليبرمان، كان نتنياهو يتولى حقيبتين وزاريتين هما الخارجية والصحة، هذا عدا كونه رئيساً للوزراء، ثم أضاف حقيبة الدفاع التي تعتبر أهم موقع بعد رئاسة الوزراء، ولو كان نتنياهو يشعر بأن ظهره محمي وقادر على الذهاب إلى انتخابات مبكرة بعد استقالة ليبرمان لفعل ذلك.
أساساً قبل أن يُقنع الوزيرين نفتالي بينيت وأيليت شاكيد من حزب "البيت اليهودي" بالعدول عن الاستقالة، حذّر نتنياهو من أن خيار الذهاب إلى انتخابات مبكرة يعني كارثة على إسرائيل، وهذا الوصف يدفع للتساؤل حول الأسباب التي تجعل رئيس الحكومة يتمسك بعدم سقوط حكومته والمناورة مع شركائه في الائتلاف الحكومي.
السبب الأول: يتعلق بملفات الفساد التي تشوب نتنياهو وعائلته، ويخشى الرجل من سقوطه في أي انتخابات مقبلة، الأمر الذي قد يقوده إلى السجن على خلفية عدم إغلاق هذه الملفات، ولذلك طالما أنه على رأس الحكومة فهو أولاً يتمتع بحصانة تجعله بعيداً عن السجن، وثانياً هو يسعى إلى إغلاق هذا الملف تماماً حتى لا يتعرض لأي مساءلات أو استجوابات في المستقبل.
السبب الثاني: ذاتي ينطلق من اعتبار نتنياهو أنه الشخصية الأوفر حظاً التي يمكن أن تحقق الأمن والاستقرار لإسرائيل، ومع أن استطلاعات الرأي ترجح أن يفوز في حال أجريت انتخابات مبكرة، إلا أن رئيس الحكومة سيعود إلى سياسة "الكولسة" لتشكيل حكومة ائتلافية.
ثالثاً: يعتقد نتنياهو أن وجوده في الحكم مفيد لإسرائيل من حيث تمرير صفقة القرن التي يريد لها الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن تتحقق، فضلاً عن سياسة نتنياهو الخارجية التي تستهدف تحسين وتطبيع علاقته مع الدول العربية وتوليد علاقات ثنائية مع دول جديدة.
نتنياهو الذي ربط إجراء الانتخابات المبكرة بالكارثة على إسرائيل، علّل ذلك بأن أحزاباً يمينية سبق لها أن أسهمت في انهيار الحكومة عامي 1992 و1999، الأمر الذي جلب اتفاق أوسلو والانتفاضة الفلسطينية الثانية التي وقعت عام 2000.
هذا التعليل غير منطقي أو مقنع وهو مجرد كلام استهلاكي لأغراض إعلامية تسويقية، بدليل أن حزب العمل الذي قبل بأوسلو لم يعط للفلسطينيين دولتهم التي كان يفترض لها أن تقوم عام 1999، وبالعكس أطلقت يد الاستيطان في الضفة الغربية ومورست سياسات تعسفية تعكس موقفاً إسرائيلياً مغايراً من هذه الاتفاقية.
أما عام 1999، فهو يفترض أن يكون عام استحقاق قيام الدولة الفلسطينية، لكن قمة كامب ديفيد التي عقدت بعد هذا التاريخ بعام فشلت؛ لأن إسرائيل من يمينها إلى يسارها غير جاهزة ولا معنية بقبول الشعب الفلسطيني والاعتراف بدولته.
العبرة من ذلك أن إسرائيل لا يوجد فيها يسار أو وسط، والحقيقة أنها مبنية على عقيدة يمينية ترفض إعطاء الفلسطينيين حقهم، ولذلك من غير المستبعد أن نتنياهو الذي مارس سحره على بينيت وشاكيد، سيزيد من جرعة التطرف لإرضاء الأحزاب اليمينية والرأي العام.
حكومة نتنياهو حوّلت الأنظار عن مشكلاتها الداخلية إلى الفلسطينيين الذين توعدتهم في قطاع غزة بحرب مدمرة والتهديد بإعادة احتلاله، فضلاً عن تهديد رئيس الحكومة بهدم قرية الخان الأحمر التي تقع شرق القدس المحتلة، تزامناً مع عملية هدم واسعة لحوالى 19 متجراً بمخيم شعفاط.
ومع أنه لم يُسلّم حقيبة الدفاع إلى بينيت ولم يرضخ لطلب الأخير بحقه في هذه الوزارة، إلا أن نتنياهو تمكّن بالفعل من الإفلات من خيار الذهاب إلى انتخابات مبكرة، ولعله يستفيد من الوقت المتبقي للانتخابات التي يفترض أن تجرى بعد عام، من حيث هدفه في حصول حزبه الليكود على 40 مقعداً في الكنيست.
صحيح أن نتنياهو سبق أن هدد بالانتخابات المبكرة؛ احتجاجاً على قانون تجنيد الحريديين الذي يرغب في إقراره، لكنه يُفضّل رئاسة الحكومة إلى آخرِ مدتها الزمنية واستثمار الوقت في تمكين شعبيته حتى يكون قادراً في انتخابات 2019 على تشكيل حكومة دون الإكثار من إعلان جوائز الترضية مع الأحزاب للمضي في الائتلاف الحكومي.
حالياً يركز رئيس الحكومة الإسرائيلية على الاستفادة القصوى من ترامب لجهة مأزقة الفلسطينيين وحصر خياراتهم بالنافذة الوحيدة "صفقة القرن"، والمضي في علاقات تعاونية مع بعض الدول العربية لتوسيع هامش الحضور والتأثير الإسرائيلي في الشرق الأوسط.
ولا يستبعد بعقليته اليمينية التي تصفق للاستيطان وترفض قيام الدولة الفلسطينية إلا بمقاسات وشروط معيّنة، أن يفوز نتنياهو بولاية خامسة في انتخابات 2019، متفوقاً على كل رؤساء الحكومات الإسرائيليين التاريخيين في مجمل فترات الحكم من أمثال ديفيد بن غوريون.
Hokal79@hotmail.com